الثلاثاء، 22 يناير 2008

أفكار السيد تيتماير


أفكار السيد تيتماير

بقلم : بيير بورديو

عن : نقيض ـ نار
لم أرد أن أكون متواجدا هنا للمساهمة ب " دفعة روحية " ؛ فقطع وشائج التماسك الاجتماعي الذي تطالب الثقافة بتجديدها هي النتيجة المباشرة لسياسة اقتصادية معينة ، وينتظر غالبا من السوسيولوجيين إصلاح الأقداح التي كسرها رجال الاقتصاد . وإذن ، بدل أن أكتفي باقتراح ما ندعوه بالمستشفيات العلاجات المهدئة والملطفة أردت أن أحاول وضع سؤال المساهمة التي يقدمها الطبيب للمرض . لقد أمكن بالفعل أن تكون " الأمراض " الاجتماعية التي نأسف ونحزن لها ، في جانبها الأعظم ، من إنتاج الطب الذي هو عنيف غالبا ، والذي نطبقه على أولئك الذين ننوي معالجتهم .
ولهذا ، وبعد أن قرأت بالطائرة التي كانت تقلني من أثينا نحو زوريخ استجوابا لرئيس البنك الألماني الذي تم تقديمه بوصفه " أسقف الدوتش مارك الكبير " لاأقل ولا أكثر ، أريد هنا بهذا المركز المعروف بتقاليده في مجال التأويل الأدبي ، الانكباب على ضرب من التحليل الهيرمينوطيقي لنص تجدونه بكامله في صحيفة لوموند ليوم 17 أكتوبر 1996 .
هاك ما يقوله " الأسقف الكبير للدوتش مارك " : " إن الرهان اليوم يتمثل في خلق الشروط الكفيلة بإحداث تنمية قابلة للدوام ولضمان ثقة المستثمرين . يتوجب إذن ضبط الميزانيات العمومية " ــ أي ــ ، وسيكون ذلك أكثر صراحة في الألفاظ الموالية ــ إقبار الدولة في أسرع وقت ممكن ، ومن بين أشياء أخرى أيضا ، إقبار سياساتها الاجتماعية والثقافية الباهظة الثمن من أجل طمأنة المستثمرين الذين يحبون أكثر أن يتكلفوا هم أنفسهم باستثماراتهم الثقافية . إنني متأكد من أنهم يحبون كلهم الموسيقى الرومانتيكية والرسم التعبيري ، وأنا مقتنع بدون أن أعرف أي شيء عن رئيس بنك ألمانيا بأنه في ساعاته الضائعة ، كما هو حال مدير بنكنا الوطني ، يقرأ الشعر ويمارس رعاية للآداب والعلوم والفنون . أعود من جديد للموضوع فأقول إن معنى أنه " تتوجب السيطرة على الميزانيات العمومية ، تخفيظ مستوى الضرائب والرسوم إلى الحد الذي يمكن من احتمالها على المدى البعيد " هو : تخفيظ مستوى الرسوم والضرائب المفروضة على المستثمرين إلى حد إحالتها محتملة على المدى البعيد من طرف هؤلاء المستثمرين أنفسهم ، وبذلك يتم تحاشي الفت في عضدهم وتشجيعهم على تحويل استثماراتهم للخارج . أستمر في قراتي : " إصلاح نظام الحماية الاجتماعية " معناه إقبار le walfare state الدولة الاجتماعية وسياساتها المتعلقة بالحماية الاجتماعية المعدة بإتقان لتدمير ثقة المستثمرين وإشعال حذرهم المشروع وهم المتيقنون من أنها مكتسباتهم الاقتصادية بالفعل ، ــ يتحدث عن مكتسبات اجتماعية ، ويمكن الحديث عن مكتسبات اقتصادية ــ ، أعني بذلك أن رساميلهم ليست متوافقة مع المكتسبات الاجتماعية للعمال ، وأنه يجب أن تكون هذه المكتسبات الاقتصادية بداهة محمية بأي ثمن ، وذلك بتدمير المكتسبات الاقتصادية والاجتماعية الضئيلة للغالبية العظمى من مواطني أوربا المستقبلية ، أولئك الذين تمت الإشارة إليهم كثيرا في ديسمبر 1995 بوصفهم مرفهين ومحظوظين .
السيد هانس تيتماير مقتنع بأن مكتسبات المستثمرين الاجتماعية ؛ وأعني بذلك مكتسباتهم الاقتصادية لن تضمن البقاء أمام ديمومة لنظام الحماية الاجتماعية . إن هذا النظام إذن هو ما يجب إصلاحه باستعجال ؛ وذلك لأن مكتسبات المستثمرين الاقتصادية لا يمكن أن تنتظر أكثر . وللبرهنة لكم على أنني لا أبالغ ، فإنني أستمر في قراءة السيد هانس تيتماير ؛ وهو مفكر من أعلى مستوى ، يندرج في إطار المناصرين الكبار للفلسفة المثالية الألمانية : " تتوجب إذن السيطرة على الميزانيات العمومية وتخفيظ مستوى الرسوم والضرائب إلى الحد الذي يجعلها محتملة على المدى الطويل ، إصلاح نظام الحماية الاجتماعية ، تقويض وهدم ضروب الصرامة على مستوى سوق الشغل بالشكل الذي يجعل من غير الممكن من جديد تحقيق مرحلة جديدة من النمو إلا إذا ما نحن بذلنا مجهودا من أجل ذلك " ــ إن " نحن " هذه عجيبة ــ " إلا إذا ما نحن بذلنا مجهودا مؤثرا على السوق من أجل إحالته مرنا " ، وقد تم ذلك . لقد تم إطلاق الكلمات الكبرى والسيد م. هانس تيتماير ، في إطار التقليد الكبير للمذهب المثالي اللماني ، يعطينا مثالا رائعا عن بلاغة التلطيف اللفظية euphémisme الرائجة اليوم بالأسواق المالية : فبلاغة التلطيف اللفظي لا محيد عنها كي تستحث بشكل دائم ثقة المستثمرين ــ والتي سنفهم عنها أنها الألف والياء لمجموع النظام الاقتصادي ، الأساس والهدف النهائي ، le telos أوربا المستقبل ــ مع تحاشي إثارة تحدي أو يأس العمال الذين يجب إزاءهم أن نأخد في الحسبان رغم كل شيء ، إذا كنا نريد بلوغ تلك المرحلة الجديدة من النمو التي نمنيهم بها ، من أجل الحصول على مجهودين لا محيد عنهما ، وذلك لأن هذا المجهود هو مجهود منتظر منهم هم أنفسهم رغم كل شيء ، حتى ولو أن السيد م. هانس تيتماير ، باعتباره الأستاذ الفعلي لبلاغة التلطيف اللفظية ، قال : " تقويض وهدم ضروب الصرامة على مستوى سوق الشغل بالشكل الذي يجعل من غير الممكن من جديد تحقيق مرحلة جديدة من النمو إلا إذا ما نحن بذلنا مجهودا مؤثرا على السوق من أجل إحالته مرنا " ، وذاك إنجاز بلاغي هائل يمكن أن يترجم كالتالي : تشجعوا يا عمال ! ولنبذل معا كلنا مجهود المرونة المطلوب منكم ! بذل أن نضع سؤالا رزينا حول التعادل والتكافؤ الخارجي للأورو ، لعلاقاته مع الدولار والين ، فإن صحافي جريدة لوموند المهموم هو أيضا بعدم إحباط المستثمرين الذين يقرأون صحيفته والذين هم مصدر ممتاز لإشهارات الجريدة ، استطاع أن يلتمس من السيد م. هانس تيتماير الكشف له عن المعنى الذي يعطيه للكلمات /المفاتيح في لغة المستثمرين : الصرامة على مستوى سوق الشغل كذا المرونة . إن العمال إذا ما قرأوا جريدة جدية بشكل لا يقبل الجدل كجريدة لوموند ، فإنهم سيفهمون فورا ما يجب فهمه من ذلك ، أي : العمل ليلا ، العمل خلال أيام العطل ، ساعات العمل غير المنتظمة ، ضغوط متعاظمة ، التوتر العصبي . . الخ . إننا نرى أن جملة " على مستوى ــ سوق ــ الشغل " هذه تشتغل كشكل من أشكال النعت الهوميري ( نسبة إلى هوميروس ) كفيلة بأن يتم إلصاقها بعدد معين من الكلمات ، ويمكن أن تتم محاولتها لقياس مرونة لغة السيد م. هانس تيتماير للتحدث على سبيل المثال عن المرونة أو الصرامة على مستوى الأسواق المالية . إن غرابة هذا الاستعمال في لغة الخشب لدى السيد م. هانس تيتماير تسمح بافتراض أنه في لا يتعلق الأمر ب " تفكيك ضروب الصلابة على مستوى الأسواق المالية " ، أو " نحن بذلنا مجهودا على مستوى الأسواق المالية لجعلها مرنة " . وما يسمح بالاعتقاد بأنه وخلافا لما يمكن أن تجعلنا كلمة " نحن " نعتقده في جملة السيد م. هانس تيتماير " إذا ما نحن بذلنا مجهودا " وهو أن العمال والعمال وحدهم هم الذين يطلب منهم مجهود المرونة هذا ، وأنهم أيضا هم الذين يوجه إليهم التهديد ، القريب الشبه بالابتزاز ، والمتضمن في الجملة : " بالشكل الذي يجعل من غير الممكن بلوغ مرحلة جديدة من النمو إلا إذا ما نحن بذلنا مجهودا مؤثرا على مستوى سوق الشغل لجعله مرنا " . وبالواضح : تخلّوا ـ أيها العمال ـ عن مكتسباتكم الاجتماعية من أجل تحاشي فقدان ثقة المستثمرين باسم النمو الذي سيوفره لنا ذلك غدا . وهذا منطق جد معروف من طرف العمال المعنيين الذين يقولون من أجل تلخيص سياسة المشاركة التي قدمتها لهم الدوغولية في وقت سابق : " أعطني ساعتك اليدوية ، وسأخبرك كم الساعة " .
أعيد مرة أخرى ، بعد هذا التعليق قراءة نص السيد م. هانس تيتماير : " إن الرهان اليوم يتمثل في خلق الشروط الملائمة لنمو دائم ولثقة المستثمرين ، يتوجب إذن . . . " ــ لاحظوا " إذن " هاته ــ " السيطرة على الميزانيات العمومية ، تخفيظ مستوى الرسوم والضرائب إلى الحد الذي يجعلها محتملة على المدى الطويل ، إصلاح أنظمة الحماية الاجتماعية ، تقويض ضروب صلابة أسواق الشغل بالشكل الذي يجعل من غير الممكن مجددا بلوغ مرحلة جديدة من النمو إلا إذا نحن بذلنا مجهودا على مستوى أسواق الشغل لجعلها مرنة " . إذا كان نص بهذا القدر من الروعة ورائع بشكل رائع معرضٌ لعدم إثارة الانتباه ولمعرفة نفس المصير العابر للكتابات اليومية عما هو يومي فذلك لأنه مضبوط بشكل دقيق على قدر " أفق انتظار " الغالبية العظمى من قراء ما هو يومي الذين هم نحن . وذلك يضع سؤال معرفة كيف تم إنتاج ونشر " أفقِ انتظارٍ " هو بهذا الاتساع والانتشار ( وذلك لأن الحد الأدنى الذي يجب إضافته لنظريات التلقي ، التي لست أحد مريديها ، يتمثل في التساؤل عن من أين جاء هذا " الأفق " ) . إن ذلك الأفق هو نتاج عمل اجتماعي ، أو بشكل أفضل ، نتاج عمل سياسي . إذا كانت كلمات خطاب السيد م. هانس تيتماير مفهومة ببساطة ويسر فلأنها رائجة في كل مكان . إنها في كل مكان وعلى كل الألسنة ، إنها تروج كعملة رائجة ، ونحن نقبلها بدون تردد كما نقبل بالضبط تناول عملة ، عملة مستقرة ، قوتها بطبيعة الحال هي من الاستقرار ومن الجدارة بالثقة والتصديق والاعتماد تماما كالدوتش مارك : " نمو دائم " " ثقة المستثمرين " ، ميزانيات عمومية " ، نظام الحماية الاجتماعية " " صرامة " ، " سوق الشغل " ، " مرونة " ، يجب أن نضيف إليها " شمولية " ( وقد علمت عن طريق جريدة أخرى كنت أقرأها بداخل الطائرة التي كانت تقلني من أثينا إلى زوريخ أن الطباخين ، وتلك علامة على انتشار واسع ، يتحدثون أيضا عن " الشمولية " من أجل الدفاع عن الطبخ الفرنسي . . . )، " إحالة الشغل متسما بالمرونة " " تخفيظ النسب ، ــ بدون تعيين لهذه النسب ــ ، " التنافسية " ، " الإنتاجية " . . . الخ .
لا يمكن لهذا الخطاب ذي الطبيعة الاقتصادية أن يروج في ما وراء دائرة منعشيه إلا بمساهمة حشد من الناس ، رجال سياسة ، صحافيين ، مواطنين عاديين ذوي صبغة اقتصادية كافية من أجل القدرة على المساهمة في الرواج المعمم لكلمات كتاب مقدس اقتصادي معير بشكل سيء . مؤشر واحد على التأثير الذي ينتجه التكرار الإعلامي يتمثل في أسئلة الصحافي الذي يذهب نوعا ما إلى مُقَدَّمِ وواجهة انتظارات السيد م. تيتماير : فهو مشرب ومعبأ مقدما كفاية بالأجوبة التي يمكن أن يقدمها له . ، وإنه عبر تواطؤات منفعلة كهاته جاء رويدا رويدا ليفرض ذاته منظور يسمى المنظور النيوليبرالي ، منظور محافظ بالفعل يتأسس على إيمان عصر آخر وبداخل قدرية تاريخية لامهرب منها مؤسسة على أولية القوى المنتجة بدون أي تقنينات أخرى ما عدا الإرادات المتنافسة لدى المنتجين الأفراد . وليس صدفة ربما أن ينتقل عدد كبير من أفراد جيلي وبدون عناء من نزعة قدرية ماركسية إلى قدرية نيوليبرالية : فالنزعة الاقتصادية في كلتا الحالتين تعفي من المسؤولية وتُفشل التعبئة بإلغاء ما هو سياسي ، وبفرض سلسلة بأجمعها من الغايات لاتقبل النقاش : تنمية في حدها الأقصى ، تنافسية وإنتاجية . إن اعتبار رئيس بنك ألمانيا كما لو كان خادما من خدام الفكر يعني القبول والرضا بفلسفة كهاته . وما يمكن أن يفاجئنا هو أن الرسالة القدرية تضفي على ذاتها مظاهر رسالة تحريرية عبر سلسلة بكاملها من الألعاب المعجمية تدور حول فكرة الحرية والتحرير وإعدام التقنين ، . . . الخ ، عبر سلسلة بكاملها من أشكال التلطيف اللفظي ، أو لعب مزدوج بالكلمات ــ كالكلمة " إصلاح " على سبيل المثال ــ يستهدف تقديم إحدى عملياته كما لو كانت ثورة حسب منطق هو منطق كل الثورات المحافظة .
لنعد حتى ننتهي إلى الكلمة/ المفتاح في خطاب هانس تيتماير ألا وهي ثقة الأسواق فهي تمتلك استحقاق الإضاءة الكاملة للاختيار التاريخي الذي أمامه توضع كل السلط : فما بين ثقة الأسواق وثقة الشعب يجب ممارسة فعل الاختيار . غير أن السياسة التي تروم الحفاظ على ثقة الأسواق تعرض ذاتها لفقدان ثقة الشعب . وحسب قياس حديث للرأي بخصوص استجلاء مواقف الناس إزاء رجال السياسة أعرب ثلثا الأشخاص المستجوبين عن مؤاخذة تتمثل في اعتبارهم رجال السياسة غير قادرين على الاستماع والأخذ بعين الاعتبار لآراء الفرنسيين ، وهي مؤاخذة تتكرر بشكل كبير خاصة لدى مناصري الجبهة الوطنية FN ــ والتي يرثى فضلا عن ذلك لصعودها الذي لايقاوم بدون أن نفكر أو ننوي ولو للحظة واحدة إقامة علاقة ترابط في ما بين الجبهة الوطنية FN و صندوق النقد الدولي FMI . ( فقدان الأمل هذا بخصوص رجال السياسة هو فقدان ملحوظ بخاصة لدى الشبان الذين تتراوح أعمارهم ما بين 18 و 34 سنة ، ولدى العمال والمستخدمين وايضا لدى المتعاطفين مع الحزب الشيوعي PC والجبهة الوطنية FN . وبوصفه مرتفعا نسبيا لدى مناصري كل الأحزاب السياسية فإن معدل الحذر والريبة هذا يصل إلى % 64 لدى المتعاطفين مع الحزب الاشتراكي PS ، وهو ما لا يعني أيضا غياب أية علاقة لذلك مع صعود نجم الحركة الوطنية FN ) . وإذا ما أقمنا علاقة في ما بين ثقة الأسواق المالية التي يراد إنقاذها بأي ثمن ، وحذر المواطنين ، فإننا سنرى ربما بشكل واضح وأفضل أين يكمن أساس العلة . إن الاقتصاد مع بعض الاستثناءات هو علم مجرد قائم على القطيعة غير المبررة مطلقا بين البعد الاقتصادي والبعد الاجتماعي الذي يحدد ويعرف النزعة الاقتصادية . إن هذه القطيعة هي في مبدأ فشل كل سياسة لا تعرف غاية أخرى غير غاية الحفاظ على " النظام والاستقرار الاقتصاديين " ، هذا الجديد المطلق الذي جعل منه السيد م. تيتماير كاهنا ورعا هو فشل يقود نحوه العماء السياسي لدى بعضهم ونؤدي نحن جميعا ثمنه .

فريبورغ ، أكتوبر 1996 .

ليست هناك تعليقات: