الثلاثاء، 22 يناير 2008

الليبرالية الجديدة واليوتوبيا



الليبرالية الجديدة ، يوتوبيا (في طريقها للتحقق )لاستغلال بدون حدود

بـقلم : بيير بورديو


عـــن : نقيض ـ نار [ نصوص للمساهمة في مناهضة المد النيوليبرالي ]
ماي 98 .

هل عالم الاقتصاد حقيقة ، كما يريده الخطاب المهيمن ، نظام خالص ومتسم بالكمال ، مروج باقتدار تام لمنطق نتائجه المتوقعة وعاجل في كبث كل أشكال النقص والخصاص عن طريق التدابير والعقوبات التي يفرضها سواء بطريقة أوتوماتيكية أو ، بشكل أكثر استثنائية ، عن طريق ذراعه المسلحة المتمثلة في الـ FMI أو الـ OCDE والسياسات القاسية التي يفرضانها ، والمتمثلة في تخفيض كلفة اليد العاملة والإنقاص من المصاريف العمومية وجعل الشغل مرنا ؟ .. ماذا لو لم يكن في الواقع إلا التطبيق العملي ليوتوبيا معينة ؛ فالليبرالية الجديدة تحولت أيضا إلى برنامج سياسي ، إلا أنها يوتوبيا توصلت إلى الاعتقاد ، بمساعدة النظرية الاقتصادية التي تعلن عنها وتطالب بها ، بأنها وصف علمي للواقع ؟ ..
إن هذه النظرية الواصية هي محض خيال رياضي مؤسس من الأصل على تجريد تام ( لا يقبل الاختزال كما يريد أن يعتقد ذلك الاقتصاديون المنافحون عن حق التجريد الذي لا مناص منه إلى التأثير المؤسس لكل مشروع علمي ، ولبناء الشيء ( الموضوع ) كاستيعاب أو إدراك اختياري مقصود للواقعي ) : ذاك الذي يتمثل باسم تصور ضيق كما هو صارم للعقلنة المشبهة تماما بالعقلنة الفردية ، في وضع الشروط الاقتصادية والاجتماعية للإجراءات العقلانية بين قوسين ( وبالخصوص الإجراء الحسابي المطبق على الأشياء الاقتصادية الذي هو في أساس المنظور الليبرالي الجديد ) وللبنيات الاقتصادية والاجتماعية التي هي شرط ممارسته ، أو بدقة أكبر ، شرط إنتاج وإعادة إنتاج إجراءاته وبنياته . يكفي أن نفكر ، حتى نعطي صورة عن مقدار التغييب والإهمال ، في نظام التعليم وحده الذي لم يؤخذ في الحسبان أبدا بوصفه كذلك ، في الوقت الذي يلعب فيه دورا محددا وأساسيا سواء في مجال إنتاج الخيرات والخدمات أو في مجال إنتاج المنتجين . من هذا الضرب من الخطيئة الأصلية ، المدونة في الأسطورة الوالراسية لـ " النظرية الخالصة " ، تنحدر كل نواقص وعيوب المبحث الاقتصادي و العناد والتصلب القدري الذي بفعله يتشبث بالتعارض التعسفي الذي يوجده بفعل مجرد وجوده وتواجده في ما بين المنطق الاقتصادي الخالص المؤسس على المنافسة والحامل للفعالية ، والمنطق الاجتماعي المخضع لقاعدة الإنصاف .
معنى هذا أن لدى هذه " النظرية " المفرغة من محتواها الاجتماعي منذ الأصل ، وكذا من بعدها التاريخي اليوم أكثر من أي وقت مضى ، وسائل تحويل ما تريده وترغب فيه إلى حقيقة وقابلا للتحقق تجريبيا . وبالفعل ، فالخطاب الليبرالي الجديد ليس خطابا كالخطابات الأخرى ؛ فعلى طريقة الخطاب التحليلي ـ النفسي في المعزل l'asile حسب إرفينغ گوفمان ، هو " خطاب مثين " ليس بهذه القوة وصعوبة المقاومة إلا لأنه يحوز كل قوى عالم من موازين القوى التي تسهم في جعله كما هو ، وبخاصة من خلال توجيه الاختيارات الاقتصادية لأولئك الذين يهيمنون على العلاقات الاقتصادية ، ومن ثمة بإضافة قوته الذاتية المحض رمزية لموازين القوى تلك (1) . وباسم هذا البرنامج العلمي للمعرفة المحول إلى برنامج سياسي للفعل يتم إنجاز " عمل سياسي " هائل وشاسع (مستنكر ما دام ذا مظهر سلبي خالص ) يستهدف خلق شروط تحقيق واشتغال " النظرية " ؛ برنامج تدمير منهجي للجماعات ( فالاقتصاد الكلاسيكي الجديد لا يريد أن يعترف إلا بالأفراد سواء تعلق الأمر بمقاولات أو نقابات أو أسر ) .
إن التحرك نحو يوتوبيا ليبرالية جديدة لسوق خالصة وكاملة ، والذي أضحى ممكنا بفعل سياسة التحرير المالي ، يُنجز عبر النشاط المحول ، ويجب أن نقول ، عبر النشاط " التدميري " لكل الإجراءات السياسية ( والتي يعتبر l'AMI [ الاتفاق المتعدد الأطراف حول الاستثمار ] أقربها زمنيا ، وهو المخصص والموجه لحماية المقاولات الأجنبية واستثماراتها من الدول الوطنية ) المستهدفة لأن تضع موضع التساؤل كل البنيات الجماعية الكفيلة بوضع عائق أمام منطق السوق الخالصة ، والمتمثلة في : " أمة " لم يتوقف هامش تحركها عن التناقص ، وعلى سبيل المثال " فرق عمل " مع فردنة الأجور والمناصب تبعا للكفاءة الفردية وتشتت العمال الناجم عنه ، " جماعات الدفاع " عن حقوق العمال ، نقابات ، جمعيات ، تعاونيات ؛ " أسر " حتى ، تلك التي تفقد جراء تشكيل الأسواق حسب فئات الأعمار جزءا من سيطرتها على الاستهلاك . ولكون البرنامج الليبرالي الجديد يمستمد قوته الاجتماعية من القوة السياسية والاقتصادية لأولئك الذين يعبر عن مصالحهم ؛ مساهمين ، فاعلين ماليين ، صناعيين ، رجال سياسة محافظين أو اجتماعيين ديمقراطيين متحولين إلى الاشتغالات المطمئنة لدعه يعمل ؛ كبار موظفي المالية الأكثر تهالكا بنفس القدر لفرض سياسة مشيدة بثمن النتائج احتمالا ، فإن هذا البرنامج ينحو شموليا أو كليا نحو تغليب القطيعة في ما بين الاقتصاد والحقائق الاجتماعية ، وكذلك نحو البناء في الواقع لنظام اقتصادي مطابق للتوصيف النظري ، أي نوعا من آلة منطقية تفرض ذاتها كما لو كانت سلسلة من الإكراهات التي تقود الفاعلين الاقتصاديين رغما عنهم .
إن عولمة الأسواق المالية منضافة إلى تقدم تقنيات الإعلام تضمن حركية غير مسبوقة للرساميل وتوفر للمستثمرين ( أو المساهمين ) المهمومين بمصالحهم الفورية ، أي بمردودية استثماراتهم على المدى القصير ، إمكانية المقارنة في أية لحظة لمردوديات كبريات المقاولات ومعاقبة حالات الفشل بالتالي بالعلاقة معها . والمقاولات ذاتها الرازحة تحت تهديد دائم كهذا مطالبة بالتكيف والتلاؤم بطريقة أكثر فأكثر سرعة مع مطالب وإكراهات السوق ، وذلك تحت طائلة " فقدان ثقة الأسواق كما يقال عادة " ، وفي نفس الآن فقدان دعم المساهمين الذين هم قادرون أكثر فأكثر بوصفهم مهمومين بالحصول على مردودية في أقصر مدة ، على فرض إرادتهم على " المسيرين " وإملاء المعايير عبر التوجيهات المالية ، وعلى توجيه سياساتهم في مجال التشغيل والتوظيف والأجور . هكذا تتشيد سيادة المرونة المطلقة من خلال التوظيف بعقود ذات مدى زمني محدد حيث فترات الإنابة و " المخططات الاجتماعية " المتكررة وإعمال المنافسة في حضن المقاولات ذاتها في ما بين الفروع المستقلة ذاتيا ، وفي ما بين فرق العمل المكرهة على أن تكون قابلة لممارسة أي عمل متعدد المهام ، وأخيرا في ما بين الأفراد من خلال فردنة العلاقة الأجرية : تحديد أهداف فردية ؛ وإنجاز مقابلات فردية للتقييم ؛ وزيادة في الأجور حسب الأفراد أو الحصول على علاوات تبعا للكفاءة والاستحقاق الفردي ؛ أوضاع شغل مفردنة ؛ واستراتيجيات " للتحسيس بالمسؤولية " تنحو نحو ضمان الاستقلال الذاتي لبعض الأطر الذين ولو أنهم مجرد مأجورين مندرجين ضمن تبعية تراتبية قوية يعتبرون في نفس الآن مسؤولين عن مبيعاتهم ومنتجاتهم و فروعهم ومحلاتهم التجارية . . الخ على طريقة " المستغلين " ، وهو مطلب من مطالب " الضبط الذاتي " يوسع " توريط " المأجورين وفق تقنيات " التدبير الإسهامي " في ما وراء مهام الأطر بكثير ، بكثير من تقنيات الإخضاع والقهر العقلانية التي تساهم وهي تفرض الاستثمار أو الاستغلال الزائد في العمل وليس فقط في مناصب المسؤولية والعمل في آجال مستعجلة ، في إضعاف أو اجتثاث معالم ومرجعيات وأشكال التضامن الجماعية (2) .
إن التأسيس العملي لعالم دارويني يجد نوابض انخراطه في المهمة والمقاولة في انعدام الأمان والمعاناة والقلق (3) لا يمكنه بدون شك أن ينجح بشكل تام إلا إذا كان قد توفر له تواطؤ أشكال التطبع على الهشاشة التي يولدها انعدام الأمان وتواجد " جيش احتياطي من اليد العاملة المطوعة والخانعة بفعل الهشاشة " وبفعل التهديد الدائم بالبطالة على كل مستويات التراتبية ، حتى العليا منها من بين الأطر خاصة . إن الأساس الأخير لكل هذا النظام الاقتصادي الموضوع تحت يافطة الدعوة لحرية الأفراد يتمثل بالفعل في " العنف البنيوي " للبطالة وللهشاشة و " الخوف " الناجم عن التهديد بالتسريح : فشرط الأداء " المتناغم " للنموذج الميكرو ـ اقتصادي الفرداني ومبدأ " التحفيز " الفردي للعمل يقيم في نهاية التحليل في ظاهرة جماهيرية تتمثل في وجود جيش احتياطي من العاطلين ، جيش لم يوجد فضلا عن ذلك لوحده ، ما دامت البطالة تعزل وتشتت وتفردن ، تعدم الحركية والتضامن .
إن هذا العنف البنيوي ينيخ أيضا على ما ندعوه عقد الشغل ( المعقلن بمهارة ودراية والمفرغ من إمكانية التحقق الفعلي بفعل " نظرية العقود " ) . لم يتحدث خطاب المقاولة يوما بهذا القدر عن الثقة وعن التعاون وعن الولاء وعن ثقافة المقاولة إلا في الفترة التي يتم فيها التمكن من إدماج كل لحظة من لحظات العمل ، مع العمل على اختفاء كل الضمانات الوقتية ( فثلاثة أرباع التوظيفات هي توظيفات ذات مدد زمنية محدودة ، ونصيب الوظائف المؤقتة لا يتوقف عن التعاظم ، والتسريح الفردي ينزع نحو أن لا يتم إخضاعه لأي تقنين ) . هو إشراك لا يمكن أن يكون فضلا عن ذلك إلا إشراكا غير مؤكد وملتبس ، لأن الهشاشة والخوف من التسريح يمكنه كالبطالة أن يحدث الرعب ويحطم المعنويات أو النزعة التقاليدية ( وعديد من المفاسد التي تعاينها الثقافة التسييرية وتأسف لها ) . في هذا العالم بدون عطالة ، بدون مبدأ محايث للاستمرارية يوجد المهيمن عليهم في وضع مخلوقات موجودة في عالم ديكارتي ( كارتيزياني ) : إنهم مرهونون بالقرار الاعتباطي لسلطة مسؤولة عن " الخلق المستمر " لوجودهم ـ كما يشهد على ذلك ويذكر به التهديد بإغلاق المعمل وإيقاف الاستثمار وتغيير المــوطن ( التهجير ) .
إن الشعور العميق بانعدام الأمان واللايقين في المستقبل وفي الذات الذي يصيب كل الشغالين والموسميين أيضا يعود تلوينه الخاص إلى واقعة أن مبدأ القسمة والتمييز في ما بين أولئك الذين طوح بهم وألحقوا بجيش الاحتياط ، وأولئك الذين يشتغلون يبدو مقيما في " الكفاءة المضمونة مدرسيا " ، والتي هي أيضا في أصل مبدأ التقسيمات الأخرى في حضن المقاولة " التي أضفي عليها الطابع التقني بالكامل " في ما بين الأطر أو " التقنيين " ومجرد العمال أو les os parias الجدد للنظام الصناعي . إن تعميم الإلكترونيك والإعلاميات وإكراهات الجودة التي ترغم كل المأجورين على امتلاك معرفة جديدة بأنواع من المهن ، وتؤبد بداخل المقاولة ما يعادل الامتحانات والاختبارات بالمدارس ، تنحو نحو مضاعفة الشعور بانعدام الأمان بفعل شعور عدم الأهلية المتناول بدراية وتعالم من قبل التراتبية . إن النظام المهني ، وعلى مستوى مجموع النظام الاجتماعي يبدو مؤسسا على قاعدة نظام " الكفاءات " أو أفدح من ذلك ، على نظام " ضروب الذكاء " . وكلما زادت ربما أكثر الفبركات التقنية لعلاقات العمل والاستراتيجيات المدبرة بشكل خاص بغاية تحقيق الخضوع والطاعة اللذين يشكلان موضوع انتباه لا ينقطع وإعادة ابتكار دائمة ، كلما زاد أكثر الاستثمار الضخم للأشخاص والوقت والبحث ، وزاد العمل الذي يفترضه الابتكار المتصل والمستمر لصيغ جديدة من صيغ تدبير اليد العاملة وتقنيات القيادة الجديدة ، فالاعتقاد والإيمان بتراتبية القيم المضمونة مدرسيا هو الذي يؤسس النظام والانضباط بداخل المقاولة الخاصة ، وأكثر فأكثر أيضا بداخل الوظيفة العمومية : المكرهتان على تصور الذات والتفكير فيها بالمقارنة مع نبالة المدرسة الكبرى المنذورة لمهام القيادة ، وبالمقارنة مع النبالة الصغرى للمستخدمين والتقنيين المقتصرين على مهام التنفيذ وهي دائما مؤجلة ، وذلك لأنهم بوصفهم مكرهين دوما على إثبات جدارتهم ، فإن العمال المحكوم عليهم بالموسمية وانعدام الأمان بخصوص منصب شغل هو معلق بدون توقف ومهدد بالحذف وبالسقوط في حمأة البطالة لا يمكنهم أن يكونوا إلا صورة مخيبة للآمال ، حتى عن ذواتهم ذاتها باعتبارهم أفرادا وعن جماعتهم أيضا التي كانت في ما مضى موضوع فخر واعتزاز ومتجذرة في التقاليد وقوية بإرث تقني وسياسي بأكمله ، أي صورة جماعة العمال التي إذا ما وجدت ولا تزال تتواجد أيضا على تلك الحال ، فهي منذورة لانهيار المعنويات وفقدان القيمة وفقدان الأوهام السياسية التي تعبر عن ذاتها في أزمة النزعة النضالية ، أو أفدح من ذلك ، في الاصطفاف اليائس في أطروحات نزعة التطرف الفاشي .
إننا نرى بذلك كيف تنزع اليوتوبيا النيوليبرالية إلى التجسد في الواقع على شكل آلة جهنمية تنفرض ضرورتها على المهيمنين ذاتهم ـ المخترقين أحيانا كالسيد جورج سوروس أو هذا الرئيس أو ذاك من رؤساء صناديق المعاش من طرف التخوف من التأثيرات المدمرة للإمبراطورية والسطوة التي يمارسونها ، والمحمولين على أفعال تعويضية مستلهمة من نفس المنطق الذي يريدون القضاء عليه كحالات كرم وأريحية السيد بيل جيتس . وكالماركسية في أزمنة أخرى ، والتي لها معها في هذا الإطار الكثير من القواسم المشتركة ، فإن هذه اليوتوبيا تخلق إيمانا هائلا ، la free trade faith ، لا فقط لدى أولئك الذين يتعيشون منها ماديا كرجال المال وباطرونات كبريات المقاولات . . . الخ ، وإنما أيضا لدى أولئك الذين يستخلصون منها مبررات وجودهم ككبار الموظفين والسياسيين الذين يقدسون سلطة الأسواق باسم الفعالية الاقتصادية ، ويشترطون إزاحة ورفع الحواجز الإدارية أو السياسية التي من شأنها أن تزعج مالكي رؤوس الأموال في مسعاهم الفرداني الخالص لمضاعفة الأرباح المعتبر نموذجا للعقلانية وتضخيمها إلى حدها الأقصى ، والذين يريدون الأبناك المركزية أبناكا مستقلة ، والذين يستعجلون إلحاق الدول الوطنية بإكراهات واشتراطات الحرية الاقتصادية من أجل أسياد الاقتصاد ، مع إلغاء كل التقنينات على مستوى كل الأسواق ، ابتداء من سوق الشغل ، وتحريم وحظر الإفلاسات والتضخم ، وإقرار الخوصصة المعممة للخدمات العمومية ، والإنقاص من النفقات العمومية والاجتماعية .
إن لدى الاقتصاديين حتى دون أن يتقاسموا بالضرورة مع المؤمنين الصادقين مصالحهم الاقتصادية والاجتماعية ما يكفي من المصالح الخاصة بهم ( النوعية ) في حقل العلم الاقتصادي ، وذلك من أجل تقديم مساهمة حاسمة كيفما كانت حالات الوعي ( الفكر ) لديهم بخصوص التأثيرات الاقتصادية والاجتماعية لليوتوبيا التي يلبسونها لباس العقل الرياضي ، وإنتاج وإعادة إنتاج الإيمان باليوتوبيا النيوليبرالية . إنهم بوصفهم معزولين عن العالم الاقتصادي والاجتماعي كما هو بفعل نمط وجودهم بكامله ، وبفعل مجموع تكوينهم الفكري بكامله ، ذاك الذي هو في الغالب مجرد بشكل خالص ، كتبي ونظري النزوع ، فهم كما هو الحال من وقت لآخر في مجال الفلسفة ، ميالون خاصة لخلط أشياء المنطق مع منطق الأشياء . ولأنهم واثقون من نماذج لم تتوفر لهم الفرصة عمليا أبدا لوضعها على محك الاختبار التجريبي ، ومحمولون على النظر من أعلى لمكتسبات العلوم التاريخية الأخرى ، والتي لا يتعرفون بداخلها على النقاء والشفافية البلورية لألعابهم الرياضية ، والذين هم في الغالب الأعم غير قادرين على فهم ضرورتها الحقيقية وتعقدها العميق ، فإنهم يساهمون ويشاركون في تغير اقتصادي واجتماعي هائل ، ذاك التغير الذي حتى ولو أن بعض نتائجه المصيبة إياهم بالرعب ( فهم يستطيعون أن يساهوا مشتركين في الحزب الاشتراكي ويقدموا نصائح فطنة لممثليه في محافل السلطة ) لا يمكن أن لا يروقهم كلية ما دام أنه ، وكمجازفة لدى بعض الفاشلين ، معزو بالخصوص إلى ما يسمونه ب " فقاعات المضاربة " ، فإنهم ينزعون نحو إضفاء صفة الحقيقة على اليوتوبيا المنطقية والمقنعة تماما ( كبعض حالات الجنون ) التي يكرسون لها حياتهم .
ومع ذلك فالعالم هناك بالنتائج المنظورة فورا ومباشرة لتنفيذ وإعمال اليوتوبيا النيوليبرالية الكبرى : لا فقط فقر ومعاناة شريحة متعاظمة أكثر فأكثر من المجتمعات الأكثر تقدما اقتصاديا ، والتعاظم الاستثنائي للفوارق في ما بين المداخيل ، والاختفاء التدريجي لعوالم الإنتاج الثقافي وللسينما والنشر . . . الخ ، ومن ثمة في النهاية للمنتجات الثقافية ذاتها بفعل التسرب المتعاظم للاعتبارات التجارية ، وإنما أيضا وبالخصوص تدمير كل المؤسسات الجماعية القادرة على المجابهة والتصدي لتأثيرات الآلة الجهنمية ، وعلى رأسها الدولة التي هي المؤتمنة على كل القيم الكونية المرتبطة بفكرة الجمهور ، والفرض في كل مكان من المراتب العليا للاقتصاد والدولة ، أو في حضن المقاولات ، لهذا الضرب من الداروينية الأخلاقية التي تجعل بفعل التعلق والولع بالناجح Winner المكون بالرياضيات العليا والقفزات المطاطية ، صراع الكل ضد الكل وقلة الحياء والوقاحة معايير لكل السلوكات والممارسـات . وهذا النظام الأخلاقي الجديد المؤسس على الإطاحة بكل القيم يتأكد بداخل الفرجة المبثوثة بمجاملة وملاطفة من طرف وسائل الإعلام ، تلك الفرجة التي يقدمها هؤلاء الممثلون السامون للدولة الذين يحطون من كرامتهم المرتبطة بمراكزهم وينزلونها إلى مستوى مهمة مضاعفة انحناءات التبجيل أمام باطرونات الشركات المتعددة الجنسيات ؛ دايوو أو تويوتا ، أو التنافس على توزيع الابتسامات وعلامات الذكاء أمام شخص إسمه بيل جيتس .
هل يمكننا أن نتوقع أن تكون كثافة المعاناة التي ينتجها نظام سياسي ـ اقتصادي كهذا في يوم من الأيام في مبدأ حركة قادرة على إيقاف التسابق نحو الهاوية ؟ .. إننا هنا بالفعل أمام مفارقة عجيبة : ففي الوقت الذي يتم فيه اعتبار العوائق الملاقاة في طريق إنجاز هذا النظام الجديد ؛ أي نظام الفرد الواحد ، لكن الحر ، عوائق معزوة إلى ضروب من الصرامة والبدائية ، ولمسألة أن كل تدخل مباشر وواع ، على الأقل عندما يأتي من الدولة كيفما كانت دوافعه ، هو تدخل فاقد للمصداقية بدعوى أنه موحى به من طرف موظفين خاضعين لمصالحهم الخاصة و لا يعرفون إلا بشكل مشوش مصالح العملاء الاقتصاديين ، ومن ثمة فهو منذور للانمحاء لصالح ميكانيزم خالص ومجهول الإسم وهو السوق ( الذي يتم إغفال أنه بدوره مكان ممارسة المصالح ) ، فإن ما هو في الطريق إلى التحلل والانمحاء في الحقيقة هو الدوام والبقاء على قيد الحياة لمؤسسات ووكلاء النظام القديم والمجهود الكامل لكل شرائح وأصناف العمال الاجتماعيين ، وأيضا لكل أشكال التضامن الاجتماعية والأسرية أو غيرها التي تحول دون النظام الاجتماعي والانهيار والغرق في السديم والعماء رغم الحجم المتزايد للساكنة المعوزة . إن الانتقال والمرور إلى الليبرالية يتحقق بطريقة غير محسوسة ، وإذن غير قابلة للإدراك ، كجنوح القارات مخفية بذلك عن الأنظار تأثيراتها الأكثر إزعاجا على المدى الطويل ؛ تأثيرات تجد ذاتها مستورة ومخفاة بشكل مفارق بفعل أشكال المقاومة التي تفرزها ، منذ الآن ، عن أعين أولئك الذين ينافحون عن النظام القديم بالاغتراف من الموارد التي احتواها ، ومن النماذج القانونية أو العملية للإسعاف والتضامن التي اقترحها ، ومن العادات التي شجعها ( لدى الممرضين ، والمساعدات الاجتماعية . . الخ ) . وباختصار ، من احتياطات الرأسمال الاجتماعي التي تحمي جزءا من النظام الاجتماعي الحالي بكامله من السقوط في الفوضى ( وهو رأسمال منذور للتلاشي إذا لم يتم تجديده وإعادة إنتاجه ، إلا أنه نظام لن يعرف الاستنفاذ غدا ) .
إلا أن نفس هذه القوى " المحافظة " ، والتي من السهولة بمكان اعتبارها ونعتها بأنها قوى محافظة ، هي أيضا من زاوية أخرى قوى " لمقاومة " ترسيخ النظام الجديد يمكنها أن تصبح قوى هدامة ـ بشرط أساسي هو أن يعرف أصحابها كيف يقودون الصراع الرمزي الخالص ضد العمل الدائب " للمفكرين " النيوليبراليين من أجل إسقاط المصداقية وإقصائها عن موروث الكلمات والعادات والتمثلات المتعلقة والمرتبطة بالفتوحات التاريخية لحركات الماضي والحاضر الاجتماعية ، بشرط امتلاك القدرة أيضا على الدفاع عن المؤسسات المقابلة لها ؛ الحق في الشغل ، الرعاية الاجتماعية ، الضمان الاجتماعي . . الخ ، ضد إرادة إحالتها أو إلحاقها ببدائية ماض متجاوز ، أو أفدح من ذلك ، اعتبارها مزايا لا جدوى منها أو غير مقبولة . إن هذه المعركة ليست سهلة ، وليس من الناذر أن نجدنا مكرهين على مباشرتها على جبهات معكوسة . ومسترشدين بنية مفارقة هي للتدمير موجهة للحفاظ والتكريس ، فإن للثوريين المحافظين إمكانية تحويل ردود الأفعال الدفاعية المستحثة من قبل الأفعال المحافظة التي يعتبرونها ثورية إلى أشكال مقاومة رجعية وإدانتها باعتبارها دفاعا بدائيا ومنحطا عن " امتيازات " المطالب أو الثورات التي تنغرس بداخل التوسل بالحقوق المكتسبة ، أي في ماض مهدد بالانحطاط أو بالتدمير بفعل الإجراءات الرجعية ـ التي تعتبر نماذجها العليا تسريح النقابيين أو بشكل أكثر جذرية تسريح القدماء ، أي المحافظين على تقاليد الجماعة .
وإذا كنا نستطيع إذن الحفاظ على بعض الأمل المعقول ، فذلك لأنه لا زال موجودا في المؤسسات الدولتية وأيضا في تدابير الوكلاء ( وبخاصة أكثرهم التصاقا بهذه المؤسسات كنبالة الدولة الصغرى ) ، القوى التي هي ، تحت ظاهر أنه تدافع فقط ، كما ستتم مؤاخذتها على ذلك فورا ، عن نظام اختفى ، وعن " الامتيازات " التي تقابله ، مطالبة بالفعل ، حتى تصمد أمام الاختبار ، بالعمل على ابتكار وبناء نظام اجتماعي لن يكون قانونه الوحيد هو البحث عن المصلحة الأنانية والرغبة الفردية في الربح ، قانون سيفرد مكانا للجماعات الموجهة نحو السعي العقلاني وراء غايات منحوتة جماعيا ومصادق عليها . وضمن هذه الجماعات والجمعيات والنقابات والأحزاب كيف لا نفرد مكانا خاصا للدولة ، للدولة الوطنية أو أفضل من ذلك للدولة الفوق ـ وطنية ، أي الأوربية ( وهي خطوة نحو الدولة العالمية ) القادرة على أن تراقب وتفرض الضريبة بفعالية على الأرباح المحققة على مستوى الأسواق المالية ، والقادرة أيضا وخاصة على التصدي للنشاط التدميري الذي تمارسه هذه الأخيرة على سوق الشغل بإقرار المصلحة العامة والدفاع عنها يدا في يد مع النقابات ، تلك المصلحة التي أردنا أم لم نرد لن تخرج أبدا ، حتى بثمن بعض الأباطيل في الكتابة الرياضية ، من نظرة المحاسب ( في زمن آخر كنا سنقول عن نظرة " البقال " ) التي يقدمها الإيمان الجديد كما لو كانت الصورة الأسمى للإنجاز الإنساني .
باريس ، يناير 1998 .
(1) جوفمان ، المعازل ، دراسات حول الظروف الاجتماعية للمرضى العقليين ، باريس ، منشورات مينوي ، 1968 .
(2) لقد أمكن إجراء استطلاع عن كل هذا في عددين اثنين من أعمال البحث في العلوم الاجتماعية المخصصة لـ " أشكال الهيمنة الجديدة في مجال الشغل " ( 1 ، 2 ) 114 ، شتنبر 1996 و 115 ، ديسمبر 1996 ، وبخاصة في مدخل جابرييل بالاز وميشال بيالو ، " أزمة شغل وأزمة سياسة " ، 114 ، ص ص 3 ـ 4 .
(3) س . دوجور ، معاناة بفرنسا ، امتهان العدالة الاجتماعية ، باريس ، منشورات سوي ، 1997 .

ليست هناك تعليقات: