الطفرة العالمية
بقلم : إغناسيو راموني
لوموند ديبلوماتيك ـ عدد أكتوبر 1997 .
في أكتوبر 1919 كانت عشرة أيام كافية للثورة البولشفية كي "تزعزع العالم" ، وللمرة الأولى تم الإيقاف المطول زمنيا للعجلة الرأسمالية الساحقة.
لقد سبق تنشيط نمو وانطلاق الرأسمالية بفضل أعمال كبار المنظرين ( آدم سميث ـ دافيد ريكاردو ) ، وبفضل أشكال حاسمة من التقدم التكنولوجي ( الآلة البخارية ـ خط السكك الحديدية ) ،وكذا بفعل الاضطرابات والقلاقل الجيوبوليتيكية ( الإمبراطورية البريطانية ـ النهضة الألمانية ـ قوة الولايات المتحدة ). كل هذه العوامل كانت قد أفرزت الثورة الرأسمالية الأولى التي مكنت من توسع هائل ، لكنه طاحن للإنسان كما شهد بذلك كل من شارلزديكنز ، إميل زولا وجاك لندن.
فكيف يمكن إذن استخلاص الربح جماعيا من الغنى الهائل الذي نجم عن التصنيع مع تفادي انسحاق المواطنين ؟ ..ذلك هو السؤال الذي سيجيب عنه ماركس من خلال إنجازه الأساسي " الرأسمال " ( 1876 ) . وكان يتوجب الانتظار خمسين سنة بعد ذلك حتى يظهر استراتيجي عبقري هو لينين ويستطيع الاستيلاء على السلطة بروسيا في خضم آمال ذات ملامح مسيحية بتحرير " بروليتاريا كل البلدان ".
ثمانون سنة بعد ذلك انهار الاتحاد السوفياتي وشهد العالم طفرة أخرى جديدة بمستطاعنا تسميتها الثورة الرأسمالية الثانية. وقد نجمت هذه الثورة ، كما هو شأن الثورة الأولى ، عن حزمة من المعلومات حصلت في ثلاثة حقول أساسية.
في المقام الأول ، في مجال التكنولوجيا ؛ فأعلمة ( من الإعلاميات ) كل قطاعات النشاط ، وكذا ولوج فضاءالترقيم ( إذ الصوت والصورة والنصوص أصبحت تبث منذ الآن بسرعة الضوء وبتوسط سنن وحيد code زعزع عالم الشغل والتربية وأوقات الفراغ . . . الخ.
في المقام الثاني ، في المجال الاقتصادي ؛ فالتكنولوجيا الجديدة تشجع توسع النشاط المالي ، إنها تنمي المناشط الحائزة لأربع حاصيات : خاصية الانتشار على مستوى مجموع البسيطة ، خاصية الدوام ، وخاصية كونها فورية و لا مادية. إن " البيغ بونغ ـ الانفجار الأعظم " للبورصات والتحرير المتبع في الثمانينيات من طرف السيدة مارغريت تاتشر والسيد رونالد ريغان مكن من عولمة الاقتصاد التي شكلت الدينامية المركزية في نهاية القرن ، تلك الدينامية التي ليس بمستطاع بلد كيفما كان أن يفلت من تأثيراتها.
في المقام الثالث ، في المجال السوسيولوجي ؛ فالاضطرابان السابقان جعلا الامتيازات التقليدية للدولة / الأمة في وضع لا تحسد عليه ، كما جعلا تصورا معينا للتمثيلية السياسية وللسلطة يصاب بالإفلاس ، فهذه السلطة التراتبية ، العمودية والسلطوية أمس بدت أكثر فأكثر منبنية في شبكات أفقية وإجماعية ، بفعل التحكم في الألباب الذي توفره وسائل الإعلام الجماهيرية.
بافتقاد المجتمعات للبوصلة الهادية أمست تبحث دون أمل أو رجاء عن معنى وعن نماذج ، وذلك لأن هذه التغيرات الكبرى حصلت بشكل متآن ضاعف من تأثيرات وهول الصدمة.
وفي نفسا الآن تم تعويض أساسيين من الأسس التي نهضت عليها الديمقراطيات المعاصرة ـ التقدم والماسك الاجتماعيان ـ بأساسين آخرين هما ـ الاتصال والسوق ـ اللذين غيرا طبيعة هذه الديمقراطيات.
إن الاتصال ، باعتباره أول خرافة زمنية ، تم اقتراحه علينا باعتباره كفيلا بحل كل المشاكل ، وبالخصوص النزاعات والإشكالات بداخل الأسر والمدارس ، في المقاولة أو الدولة، فالاتصال سيكون أكبر عامل للمسالمة والسلم . إلا أننا بدأنا نشك في أن وفرته وغزارته ذاتها تتسبب في إنتاج صور جديدة من الاستلاب ، وفي أنه بدلا من أن يحرر الفكر يسجنه ويعتقله بفعل ضروب المبالغة فيه.
إن للسوق منذ الآن نزوعا نحو أن تفيض على كل النشاطات الإنسانية وتشكل عامل تقنينها. في السابق ظلت مجالات معينة كالثقافة والرياضة والدين خارج متناولها ، أما الآن ، فقد ابتلعت من طرف جبروتها . إن الحكومات تستسلم للسوق أكثر فأكثر ( بالتخلي عن قطاعات الدولة ، بالخوصصة ) ، في حين أن السوق هي العدو الأكبر للتماسك الاجتماعي ( والتماسك العالمي ) ، ذلك لأن منطقها يشتهي تقسيم المجتمع إلى فريقين اثنين : القادرون على الدفع وغير القادرين عليه ، وهؤلاء الأخيرون لم يعودوا يهمونها في شيء : إنهم حارج اللعبة . لذلك فغن السوق هي التي تفرز ذاتيا صنوف اللاعدل والظلم.
كل هذه التغيرات البنيوية والتصورية المطبقة منذ عقد من الزمن أنتجت انفجارا أصيلا للعالم ؛ فمفاهيم كمفهوم الجيوبوليتيك ومفهوم الدولة والسلطة والديمقراطية والحدود لم تعد لها أبدا نفس الدلالات ، إلى الحد الذي ، إذا ما عاينا الكيفية الحقيقية لاشتغال الحياة العالمية ، لاحظنا أن هذه القطاعات قد تغيرت بعمق.
إن ممثلي أدوار البطولة الثلاث المركزية على مستوى البسيطة ( والذين كانوا يتمثلون في النبلاء والإكليروس ودول العالم الثالث ) أمسوا منذ الآن عبارة عن تجمعات للدول ( الاتحاد الأوربي ـ ألينا ـ ميركوسور ـ التجمع الآسيوي ...الح ) ، مقاولات شمولية وكبريات مجموعات إعلامية أو مالية ، وكذا المنظمات غير الحكومية ONG ( ذات الصبغة والمدى العالميين ( منظمة السلام الأخضر ـ منظمة العفو الدولية ـ وورلد وايد لايف ...الخ ) . إن هؤلاء الفاعلين الثلاثة يتحركون في إطار كوني متحكم فيه من طرف المنظمة العالمية للتجارة OMC أكثر مما هو متحكم فيه من قبل الأمم المتحدة ، هذه المنظمة العالمية للتجارة المعتمدة كحَكَم شمولي جديد ، وتلك علامة على العصر.
ليس للتصويت الديمقراطي أي تأثير على الاشتغال الداخلي لهذه القطاعات الجديدة الثلاث ، وقد برزت هذه الطفرة العالمية للوجود دون أن ننتبه لها أو أن نأخذ حذرنا منها ، ودون أن يكون المسؤولون السياسيون أنفسهم على وعي بها . فهل يستطيع المواطنون أن يظلوا دون رد فعل، في الوقت الذي يفرغ فيه كل هذا الذي يحدث الديمقراطية من المعنى ؟ ..
بقلم : إغناسيو راموني
لوموند ديبلوماتيك ـ عدد أكتوبر 1997 .
في أكتوبر 1919 كانت عشرة أيام كافية للثورة البولشفية كي "تزعزع العالم" ، وللمرة الأولى تم الإيقاف المطول زمنيا للعجلة الرأسمالية الساحقة.
لقد سبق تنشيط نمو وانطلاق الرأسمالية بفضل أعمال كبار المنظرين ( آدم سميث ـ دافيد ريكاردو ) ، وبفضل أشكال حاسمة من التقدم التكنولوجي ( الآلة البخارية ـ خط السكك الحديدية ) ،وكذا بفعل الاضطرابات والقلاقل الجيوبوليتيكية ( الإمبراطورية البريطانية ـ النهضة الألمانية ـ قوة الولايات المتحدة ). كل هذه العوامل كانت قد أفرزت الثورة الرأسمالية الأولى التي مكنت من توسع هائل ، لكنه طاحن للإنسان كما شهد بذلك كل من شارلزديكنز ، إميل زولا وجاك لندن.
فكيف يمكن إذن استخلاص الربح جماعيا من الغنى الهائل الذي نجم عن التصنيع مع تفادي انسحاق المواطنين ؟ ..ذلك هو السؤال الذي سيجيب عنه ماركس من خلال إنجازه الأساسي " الرأسمال " ( 1876 ) . وكان يتوجب الانتظار خمسين سنة بعد ذلك حتى يظهر استراتيجي عبقري هو لينين ويستطيع الاستيلاء على السلطة بروسيا في خضم آمال ذات ملامح مسيحية بتحرير " بروليتاريا كل البلدان ".
ثمانون سنة بعد ذلك انهار الاتحاد السوفياتي وشهد العالم طفرة أخرى جديدة بمستطاعنا تسميتها الثورة الرأسمالية الثانية. وقد نجمت هذه الثورة ، كما هو شأن الثورة الأولى ، عن حزمة من المعلومات حصلت في ثلاثة حقول أساسية.
في المقام الأول ، في مجال التكنولوجيا ؛ فأعلمة ( من الإعلاميات ) كل قطاعات النشاط ، وكذا ولوج فضاءالترقيم ( إذ الصوت والصورة والنصوص أصبحت تبث منذ الآن بسرعة الضوء وبتوسط سنن وحيد code زعزع عالم الشغل والتربية وأوقات الفراغ . . . الخ.
في المقام الثاني ، في المجال الاقتصادي ؛ فالتكنولوجيا الجديدة تشجع توسع النشاط المالي ، إنها تنمي المناشط الحائزة لأربع حاصيات : خاصية الانتشار على مستوى مجموع البسيطة ، خاصية الدوام ، وخاصية كونها فورية و لا مادية. إن " البيغ بونغ ـ الانفجار الأعظم " للبورصات والتحرير المتبع في الثمانينيات من طرف السيدة مارغريت تاتشر والسيد رونالد ريغان مكن من عولمة الاقتصاد التي شكلت الدينامية المركزية في نهاية القرن ، تلك الدينامية التي ليس بمستطاع بلد كيفما كان أن يفلت من تأثيراتها.
في المقام الثالث ، في المجال السوسيولوجي ؛ فالاضطرابان السابقان جعلا الامتيازات التقليدية للدولة / الأمة في وضع لا تحسد عليه ، كما جعلا تصورا معينا للتمثيلية السياسية وللسلطة يصاب بالإفلاس ، فهذه السلطة التراتبية ، العمودية والسلطوية أمس بدت أكثر فأكثر منبنية في شبكات أفقية وإجماعية ، بفعل التحكم في الألباب الذي توفره وسائل الإعلام الجماهيرية.
بافتقاد المجتمعات للبوصلة الهادية أمست تبحث دون أمل أو رجاء عن معنى وعن نماذج ، وذلك لأن هذه التغيرات الكبرى حصلت بشكل متآن ضاعف من تأثيرات وهول الصدمة.
وفي نفسا الآن تم تعويض أساسيين من الأسس التي نهضت عليها الديمقراطيات المعاصرة ـ التقدم والماسك الاجتماعيان ـ بأساسين آخرين هما ـ الاتصال والسوق ـ اللذين غيرا طبيعة هذه الديمقراطيات.
إن الاتصال ، باعتباره أول خرافة زمنية ، تم اقتراحه علينا باعتباره كفيلا بحل كل المشاكل ، وبالخصوص النزاعات والإشكالات بداخل الأسر والمدارس ، في المقاولة أو الدولة، فالاتصال سيكون أكبر عامل للمسالمة والسلم . إلا أننا بدأنا نشك في أن وفرته وغزارته ذاتها تتسبب في إنتاج صور جديدة من الاستلاب ، وفي أنه بدلا من أن يحرر الفكر يسجنه ويعتقله بفعل ضروب المبالغة فيه.
إن للسوق منذ الآن نزوعا نحو أن تفيض على كل النشاطات الإنسانية وتشكل عامل تقنينها. في السابق ظلت مجالات معينة كالثقافة والرياضة والدين خارج متناولها ، أما الآن ، فقد ابتلعت من طرف جبروتها . إن الحكومات تستسلم للسوق أكثر فأكثر ( بالتخلي عن قطاعات الدولة ، بالخوصصة ) ، في حين أن السوق هي العدو الأكبر للتماسك الاجتماعي ( والتماسك العالمي ) ، ذلك لأن منطقها يشتهي تقسيم المجتمع إلى فريقين اثنين : القادرون على الدفع وغير القادرين عليه ، وهؤلاء الأخيرون لم يعودوا يهمونها في شيء : إنهم حارج اللعبة . لذلك فغن السوق هي التي تفرز ذاتيا صنوف اللاعدل والظلم.
كل هذه التغيرات البنيوية والتصورية المطبقة منذ عقد من الزمن أنتجت انفجارا أصيلا للعالم ؛ فمفاهيم كمفهوم الجيوبوليتيك ومفهوم الدولة والسلطة والديمقراطية والحدود لم تعد لها أبدا نفس الدلالات ، إلى الحد الذي ، إذا ما عاينا الكيفية الحقيقية لاشتغال الحياة العالمية ، لاحظنا أن هذه القطاعات قد تغيرت بعمق.
إن ممثلي أدوار البطولة الثلاث المركزية على مستوى البسيطة ( والذين كانوا يتمثلون في النبلاء والإكليروس ودول العالم الثالث ) أمسوا منذ الآن عبارة عن تجمعات للدول ( الاتحاد الأوربي ـ ألينا ـ ميركوسور ـ التجمع الآسيوي ...الح ) ، مقاولات شمولية وكبريات مجموعات إعلامية أو مالية ، وكذا المنظمات غير الحكومية ONG ( ذات الصبغة والمدى العالميين ( منظمة السلام الأخضر ـ منظمة العفو الدولية ـ وورلد وايد لايف ...الخ ) . إن هؤلاء الفاعلين الثلاثة يتحركون في إطار كوني متحكم فيه من طرف المنظمة العالمية للتجارة OMC أكثر مما هو متحكم فيه من قبل الأمم المتحدة ، هذه المنظمة العالمية للتجارة المعتمدة كحَكَم شمولي جديد ، وتلك علامة على العصر.
ليس للتصويت الديمقراطي أي تأثير على الاشتغال الداخلي لهذه القطاعات الجديدة الثلاث ، وقد برزت هذه الطفرة العالمية للوجود دون أن ننتبه لها أو أن نأخذ حذرنا منها ، ودون أن يكون المسؤولون السياسيون أنفسهم على وعي بها . فهل يستطيع المواطنون أن يظلوا دون رد فعل، في الوقت الذي يفرغ فيه كل هذا الذي يحدث الديمقراطية من المعنى ؟ ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق