هل الديمقراطية خدعة ؟ .. وهل تتضمن بطبيعتها أو بالقوة إما إمكانات العدالة الاجتماعية أو الظلم والإقصاء الاجتماعيين ؟ .. هل يمكن الحديث في الوضع العالمي الراهن ، الناحي نحو العولمة لكل شيء والمتميز بسيطرة الأسواق المالية عن إرادة " ديمقراطية " بداخل المجتمعات تكبحها وتوجهها الموجهة المعاكسة لطموحات الشعوب في العدالة والديمقراطية " ديكتاتورية " الأسواق المالية التي لا تعرف إلا منطق مصالحها الخاصة ؟ .. هل يتبقى بعد هذه الهيمنة شبه المطلقة هامش للمناورة والفعل يمكن من تحقيق المعادلة الصعبة ؟ .. في المقال التالي نجد توضيحا لهذه المفارقة وبعض الإيحاءات بالجواب.
أرجوحة الديمقراطية
بقلم: إغناسيو راموني
عن: لوموند ديبلوماتيك
انطلاقا من العديد من العلامات والإشارات نلحظ في مجتمعاتنا التي فقدت البوصلة الهادية عودة التساؤل المحير : هل تمت مصادرة الديمفراطية من طرف جماعة صغيرة من المحظوظين ؟ ..
ذلك أن هاجس ضرورة قيام الجمهورية على " عقد اجتماعي " هو الذي قاد ، خلال قرن ونيف ، الاشتراكيين الثوريين ( من ماركس إلى تروتسكي ، مرورا ببلانكو وباكونين ولينين ) باسم الحرية ، إلى مصارعة " الديمقراطية البورجوازية " ، في الوقت الذي قاد فيه اليمين المتطرف إلى محاولة إسقاط " النزعة البرلمانية " ، وبدا كما لو أن اندحار الفاشية سنة 1945 ثم انهيار الأنظمة الشيوعية سنة 1989 قد حل المشكلة ، وأصبح بمقدور أطروحة فرانسيس فوكوياما حول " نهاية التاريخ " أن تنتصر : فالديمقراطية شكلت الأفق المستعصي على التجاوز من قبل أي نظام سياسي، كما أمكن لأي كان التذكير بقولة ونستون تشرشل المشهورة التي تمدح الديمقراطية باعتبارها النظام الأهون شرا بخلاف كل الأنظمة الأخرى.
وبفضل هذا الإطراء انتشرت الديمقراطية في كل مكان ، في أوربا الشرقية وفي الدول المتولدة عن تفكك الاتحاد السوفياتي وأيضا في أمريكا اللاتينية ، وباستثناء وحيد متمثل في العالم العربي انتشرت في إفريقيا وآسيا ، إلى حد أنه غداة الحرب العالمية الثانية ، أضحت النظام السياسي المهيمن إذا استثنينا حالات ناذرة.
ومع ذلك فإن أعداد المشهرين بهذا النظام ، باعتباره خدعة ، تزايدوا يوما بعد يوم ، وفي المقام الأول بأوربا لأنه احتمل ظهور 20 مليونا من العاطلين و 50 مليونا من الفقراء . . . ولأن بعض الدول ( الأوربية ) انتهت إلى قبول نوع من العالمثالثية لمجتمعاتها ؛ فحسب تقارير الأمم المتحدة والبنك العالمي " فإن أشكال الفوارق في ما بين الفقراء والأغنياء بالمملكة المتحدة هي الأهم من نوعها في العالم الغربي ، مقارنة مع تلك القائمة في نيجيريا ، وبشكل أعمق مع تلك التي نجدها على سبيل المثال في جمايكا ، سريلانكا أو إثيوبيا (1) " .
هكذا ( إذن ) يتصدع التماسك الاجتماعي ؛ ففي القمة تتقوى طبقة تغتني أكثر فأكثر ( 10 ÷ من الفرنسيين (مثلا) يستحوذون على 55 ÷ من الثروة الوطنية ) ، في حين ، وفي أسفل القاعدة ، تتسع جيوب الفقر متعاظمة . كما أن من المعروف أن المواطنين المهمشين ليس في مستطاعهم التمتع بالخريات الصورية وضمان ممارسة حقوقهم .
كل هذا يحدث في إطار الغلبة والانتصار فيه للمال : فقيمة المبادلات المالية هو 50 ÷ أعلى من قيمة المبادلات الفعلية للمنافع والخدمات ؛ فالأسواق المالية تفرض إرادتها على القادة السياسيين ، وإذا أمكن القول منذ عهد فريب أن " مائتي عائلة " امتلكت مقادير ومصير فرنسا ، فإننا نستطيع التأكيد راهنا على أن مصير كوكب الأرض متوقف على إرادة " 200 من المدراء " (2) .
لقد عملت الدول على تسريع وتيرة الحركة لتفعيل وضمان ديناميكية لسيرورة العولمة ، وذلك بإلغاء المراقبة على المبادلات وضمان حرية تنقل الرساميل بجعل الأبناك المركزية أبناكا " مستقلة " إلى حد أنها موقعت الأسواق المالية خارج متناول ومراقبة الحكومات التي ذهبت بدورها إلى التخلي عن أي إرادة مهما وهنت لوضع سياسة نقدية مستقلة، وذلك بقبول الخضوع لمنطق المصالح الخارجية المعاكس لمصالح مواطنيها.
إن النظام الديمقراطي ينتشر بدون عوائق على مستوى مجموع الكرة الأرضية جراء خضوع القادة السياسيين لديكتاتورية الأسواق المالية . في السابق مورست مقاومة ضارية لكل مشروع ديمقراطي من طرف الماسكين بناصية الرأسمال المتحالفين في الغالب مع قوات عسكرية : فمن الحرب المدنية الإسبانية (1936 ـ 1939) إلى الإطاحة برئيس الشيلي سالفادور أليندي سنة 1973 لا نعدم الأمثلة عن أنظمة ديمقراطية أقبرت بشكل تراجيدي لأنها تصدت للتفاوتات الطبقية بالتوزيع الأكثر عدالة للخيرات، ولأنها عقدت النية على تأميم القطاعات الاستراتيجية للاقتصاد . أما اليوم، فإن الديمقراطية متساوقة بشكل متناغم ، بفعل تدمير القطاع العام ، مع أشكال الخوصصة وإعفاء حفنة من المحظوظين . . . الخ . لقد غدا بالإمكان التضحية بأي شيء ( والمكتسبات الاجتماعية في المقام الأول ) رضوخا لإكراهات الاقتصاد المالي، وفي أوربا أضحت معايير التقارب والاندماج المفروضة من قبل معاهدة ماستريخت مطلقات شبه دستورية. فكيف لا ندرك إذا أضفنا إلى كل ذلك قلة حياء القادة الذين يتسابقون بمجرد انتخابهم للإنكار والتنكر لوعودهم الانتخابية ( من السيد فوجيموري في البيرو إلى السيد كلينتون في الولايات المتحدة مرورا بالسيد كالديرا بفنزويلا والسيد شيراك بفرنسا ) ، وكذا الوزن اللامحدود لجماعات الضغط ( اللوبيات ) واستفحال الفساد لدى الطبقة السياسية ، كيف لا ندرك عوامل غياب المصداقية عنها ؟.. كيف لا يمكن الوقوف على أن هذه الديمقراطية المعطلة تمكن في المقام الأول من تنامي وتطور اليمين المتطرف ؟.. (3).
إن كل يوم يوضح كم يفضل المنتخبون، والحكومات بالخصوص ، اللجوء إلى كبريات وسائل الإعلام لمخاطبة المواطنين وعدم إعارة البرلمان أي اهتمام فـ " أن تحكم هو أن تتواصل " يقول لسان حالهم فيما يبدو ، ولكن واقع الأمر ، وبدواخلهم ، فإن التواصل مع المواطنين يعني الكذب عليهم.
كيف لا يمكن أن نتفهم غضب الناس في مجموع الاتحاد الأوربي وهم يتعرضون لمد من أنواع الظلم؟.. وبأي حق ينادي المسؤولون الماسكون بزمام السلطة السياسية ، خوفا من خريف غضب ساخن ، بضرورة السلم الاجتماعي وهم يمارسون الحرب الاجتماعية بشكل يومي ؟.. ذلك السلم الذي لا يمكن ضمانه وتأمينه إلا إذا تحولت الديمقراطية إلى قاعدة وأساس لعقد اجتماعي جديد.
هوامش :
(1) إلباييس ، مدريد ، 16 شتنبر 1996.
(2) " قادة العالم الجدد " طريقة في النظر رقم 28 نونبر 1995.
(3) أنظر كريستيان دوبري " ديمقراطيات بدون صوت " لوموند ديبلوماتيك ـ دجنبر 1992.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق