عصر جديد من الغزو
بقلم : إغناسيو راموني
طريقة في النظر [ Manière de voir ]
ما هي الحالة الراهنة للعالم ؟ ..إن الظاهرة المركزية فيه هي أنه تم إقحام جميع الدول في ديناميكية العولمة ، ويتعلق الأمر هنا بثورة رأسمالية ثانية ، والعولمة تطال أبعد مكان قصي في الكرة الأرضية متجاهلة بذلك أيضا استقلال الشعوب وتنوع الأنظمة السياسية.وبذلك تعرف الأرض عصر غزو جديد كما كان الحال إبان الاكتشافات الجغرافية أو الحملات الاستعمارية، غير أنه إذا كان الفاعلون الأساسيون في حالات الغزو التوسعي عبارة عن دول ، فإنهم في هذه المرة عبارة عن مقاولات وشركات عملاقة ومجموعات صناعية ومالية خاصة تنوي فرض سيطرتها على العالمين. والملاحظ أنه لم يسبق أبدا أن كان أسياد الأرض بهذه القلة من حيث العدد و لا بهذه القوة . وهذه المجموعات تتموقع بداخل الثلاثي : الولايات المتحدة ـ أوربا واليابان، لكن نصفها يحط رحاله بالولايات المتحدة الأمريكية ، ومن ثمة فهي ظاهرة أمريكية بامتياز.
لقد تسارع تمركز رأس المال والسلطة هذا بشكل عجيب خلال العشرين سنة الأخيرة تحت تأثير ثورة تكنولوجيات الإعلام، وسيتم تحقيق خطوة إلى الأمام انطلاقا من بداية هذه الألفية من خلال أشكال التحكم الجديدة في التقنيات الجينية لتلعيب الحياة والتحكم فيها، وخوصصة الجينوم الإنساني وتعميم إضفاء براءات الاختراع على الكائن الحي تفتح آفاقا جديدة لتوسع الرأسمالية. إن خوصصة كبرى لكل ما يتعلق بالحياة الطبيعية يتم إعدادها مشجعة بذلك فرص ظهور سلطة ربما أكثر إطلاقية من كل ما خبرناه عبر التاريخ بأكمله.
إن العولمة لا تستهدف غزو البلدان أكثر مما تستهدف غزو الأسواق ، والهم الأساسي لهذه السلطة الحديثة ليس هو غزو الأراضي كما كان الشأن إبان الحملات الكبرى أو الفترات الاستعمارية ، وإنما هو وضع اليد على الثروات.
ويصاحب هذا الغزو بأشكال من التدمير هائلة ؛ فصناعات بأكملها تلحقها النكبة بوحشية في كل الجهات والمناطق ، مع كل الآلام الاجتماعية الناجمة عنها : بطالة جماهيرية ، تشغيل متدن ، هشاشة ، إقصاء ، 50 مليونا من الفقراء بأوربا ، ومليار من العاطلين والموسميين بالعالم . . . استغلال متفاحش للرجال والنساء ـ وبشكل فضائحي ـ للأطفال : 300 مليون طفل يتم استغلالهم في ظروف عنف غير مسبوق.
إن العولمة أيضا هي نهب البسيطة؛ فكبريات المجموعات تدمر البيئة بوسائل متجاوزة للحدود ، وهي تستخلص الأرباح من ثروات الطبيعة التي هي ملك مشترك للإنسانية ، وهي تفعل ذلك بدون رادع و لا فرامل ، ويصاحب ذلك أيضا بجرائم مالية مرتبطة بأوساط الأعمال وكبريات الأبناك التي تدر مبالغ تتجاوز 1000 مليار دولار سنويا ، أي أكثر من الناتج الوطني الخام لثلث الإنسانية.
إن التبضيع المعمم للكلمات والأشياء ، للأجساد والأرواح ، للطبيعة والثقافة ، يحدث تعميقا للفوارق؛ فنحن نعرف أن الهوة التي تفصل الأغنياء عن الفقراء تم حفرها خلال عشريتي اللبرالية الفائقة ( 1979 ـ 1999 ) ، لكن كيف يمكن تصور هوة سحيقة كهاته ؟ .. عندما نعلم أن 3 أشخاص من الأكثر غنى في العالم يمتلكون ثروة تفوق حصيلة النتاجات الداخلية الخام PIB (1) في 48 بلدا من البلدان الأكثر فقرا، أي ربع مجوع الدول في العالم. . .
إننا تكتشف أيضا أنه إذا كان " لدى 20% من سكان العالم الذين يعيشون في البلدان الأكثر غنى سنة 1960 عائد أكبر ب 30 ضعفا من عائد 20% من السكان الأكثر فقرا ، وأن هذا العائد كان سنة 1995 أكبر ب 82 ضعفا (2) " ، فإن العائد حسب كل ساكن في أكثر من 70 بلدا هو أقل مما كان عليه قبل 20 سنة .. . وأن قرابة 3 مليار شخص على مستوى البسيطة ـ أي نصف البشرية ـ يعيشون بأقل من 10 فرنكات يوميا.
لقد بلغ تعاظم الخيرات مستويات غير مسبوقة ، لمن عدد أولئك الذين لا سقف لهم و لا شغل و لا ما يكفي من الطعام يتعاظم دون توقف. وهكذا ، فمن بين 4,5 مليار نسمة التي تضمها البلدان المتخلفة، نجد أن ثلثهم يفتقد الماءالشروب وخمس الأطفال لا يلتهمون ما يكفي من الحراريات والبروتينات ، وملياران من الأفراد ـ ثلث البشرية ـ يعانون من مرض فقر الدم.
فهل هذه الوضعية قضاء وقدر ؟ .. لا ؛ لأنه يكفي ـ حسب الأمم المتحدة ـ اقتطاع أقل من 4% من الثروات المراكمة لدى أصحاب أكبر وأضخم ثروات العالم المقدرة ب 225 ثروة ، حتى يتم إشباع حاجات كل سكان الأرض من الغذاء والماء الشروب والتعليم والصحة. إن التوصل إلى الإرضاء الكوني للحاجات الصحية والغذائية الأساسية لن يكلف سوى 13 مليارا من الدولارات ، أي بالكاد ما يصرفه سكان الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي سنويا في مجال استهلاك العطور . . .
إن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي احتفلنا في ديسمبر 1998 بذكراه الخمسينية يؤكد ما يلي : " لكل شخص الحق في عيش كريم يضمن صحته ورفاهيته وكذا صحة ورفاهية عائلته ، وخاصة التغذية واللباس والسكن والعلاجات الطبية، وأيضا الخدمات الاجتماعية الضرورية"، إلا أن هذه الحقوق أضحت حقوقا يعسر تحقيقها والوصول إليها في أعين الجزء الأعظم من البشرية.
لنتناول على سبيل المثال مثال التغذية، إن الغذاء غير مفتقد ؛ فلم يسبق للمواد الغذائية أبدا أن كانت بهذه الوفرة ، وهي من شانها أن تمكن كل فرد من 6 مليار نسمة على وجه البسيطة من أن يضمن على الأقل 2700 سعرة حرارية يوميا ، إلا أنه لا يكفي إنتاج المواد الغذائية ، إذ يجب أن تتمكن الجماعات الإنسانية التي هي في حاجة إليها من شرائها واستهلاكها ، وهو ما هو غير متحقق بالفعل، لأن 300 مليونا من الأفراد يموتون سنويا بسبب الجوع ، وأكثر من 7800 مليونا يعانون من سوء التغذية المزمن.
وهنا أيضا ليس هناك ما لا يمكن تفاديه . إن الإفلاسات المناخية هي في الغالب حالات متوقعة ، وعندما يكون بإمكان منظمات إنسانية أن تتدخل ، فإن منظمات مثل [ حركة مناهضة الجوع ] يمكنها أن تقضي على مجاعة ناشئة خلال بضعة أسابيع. ومع ذلك ، فغن المجاعة تستمر في القضاء على ساكنات بأكملها.
لماذا ؟ .. لأن الجوع تحول إلى سلاح سياسي كما كتب سيلفي برونيل يقول : " لم تعد الشعوب العدوة ، والشعوب التي هي برسم الغزو هي الشعوب الجائعة ، وإنما هم السكان الذين ينتمي إليهم أولئك الذين يريدون ـ لمصلحتهم الخاصة ـ أن يتحايلوا على هذه الصراعات الجديدة ، التي هي كشافات ضوئية إعلامية مع لوازمها وانطلاق للرأفة العالمية من عقالها، كما أنها منبع لا ينضب للمال والغذاء ومنصات عمومية لعرض مطالبهم ". (3)
إن مسؤولين حكوميين أو زعماء حرب بالصومال ، بالسودان ، بليبريا ، بسيراليون، بكوريا الشمالية أو ببيرمانيا يأسرون الأبرياء ويجوعونهم بغرض تحقيق مراميهم السياسية ، وأخيرا ، فقد أصبح دور المناخ في الجماعات الكبرى دورا هامشيا ، إذ أن الإنسان منذ اليوم هو الذي غدا يجوع الإنسان وليس المناخ.
إن البروفيسور أمارتيا سن ، الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد سنة 1998 ، والمعروف بأعماله التي يبين فيها كيف يمكن لسياسات بعض الحكومات أن تتسبب في المجاعة حتى عندما تكون المنتجات الغذائية متوفرة ، يؤكد ما يلي : " إن إحدى الوقائع الكبرى في تاريخ المجاعة المرعب تتمثل في أنه لم تحدث أبدا أية مجاعة خطيرة في أي بلد يتوفر على صيغة ديمقراطية للحكم وصحافة حرة نسبيا " (4) . وفي سياق معارضته للأطروحات الليبرالية الجديدة ، يعتبر السيد سن أنه يجب أن تسند للدولة وليس للسوق مسؤولية كبرى في مجال النهوض بالعيش الكريم وتوفيره لجميع أفراد المجتمع. ومع ذلك ، وفي لحظتنا الراهنة ، فإن البنيات الدولتية ، كما هو الحال بالنسبة للبنيات الاجتماعية التقليدية ، هي بنيات تم هزمها والتشطيب عليها بصورة مفجعة؛ فالدول تنهار في كل مكان تقريبا ببلدان الجنوب ، ومناطق السيبة والكيانات السديمية غير المحكومة تتطور مفلتة بذلك من أية مشروعية ومعاودة الإغراق في حالة الهمجية التي لا يستطيع أن يفرض القانون في إكارها إلا جماعات النهابين عبر فرض الإتاوات على السكان المدنيين، كما أن مخاطر من نوع جديد بدأت تظهر : الجريمة المنظمة ـ الشبكات المافيوزية ـ المضاربة المالية ـ الفساد الأكبر ـ انتشار أوبئة جديدة ( السيدا ـ إيبولا ـ كروزفيلد جاكوب . . الخ ) ـ أنواع حادة من التلوث وأشكال من التعصب الديني والعرقي ـ ظاهرة الاحتباس الحراري ـ التصحر وانتشار الأسلحة النووية . . . الخ.
وفي الوقت الذي يبدو فيه أن الحرية والديمقراطية قد انتصرا في عالم تخلص إلى حد كبير من الأنظمة السلطوية ، فإن أشكالا من الحظر والتلعيب بصيغ متعددة ومتنوعة تعود لتطفو على السطح من جديد بقوة ؛ أشكال جديدة ومغرية من " أفيون الجماهير " تقترح ضربا من " أفضل العوالم " التي تروح عن المواطنين وتحاول أن تصدهم عن النشاط الحقوقي والمطلبي. في عصر الاستلاب الجديد هذا ، وفي لحظة الثقافة العالمية و " الثقافة الشمولية " والرسائل الكونية ، تلعب تكنولوجيات الاتصال أكثر من أي وقت مضى دورا إيديولوجيا مركزيا من أجل تمليس الفكر وتسطيحه ، وكل هذه التغيرات السريعة والعنيفة تصيب الحكام السياسيين بالدوخة والاضطراب ؛ فهم في غالبيتهم يشعرون بأنهم فوجئوا بعولمة تغير قواعد اللعب وتجعلهم عاجزين جزئيا ، وذلك لأن أسياد العالم الحقيقيين ليسوا هم أولئك الذين يتحكمون في مظاهر السلطة السياسية وما يظهر منها على السطح.
وهذا هو السبب في أن المواطنين يضاعفون حالات التعبئة ضد السلط الجديدة كما رأينا ذلك في بداية دجنبر 1999 بمناسبة قمة المنظمة العالمية للتجارة OMC بسياتل. إنهم يظلون مقتنعين بأن هدف العولمة في العمق ، في غبش الألفية الجديدة هاته ، هو تدمير ما هو جماعي ، والاستحواذ عن طريق السوق والقطاع الخاص على المجال العمومي والاجتماعي . . . . وقد قرر هؤلاء المواطنون أن يتصدوا لذلك.
هوامش :
(1) قيمة مجمل الإنتاج ( خيرات وخدمات ) في بلد ما .
(2) التقرير العالمي حول التنمية البشرية 1998 ، برنامج الأمم المتحدة من أجل التنمية PNUD ، نيويورك ـ شتنبر 1998 .
(3) إقرأ سيلفي برونيل وجان لوك بؤدان " جغرافية الجوع السياسية ، عندما يتحول الجوع إلى سلاح " [ التقرير السنوي لحركة مناهضة الجوع ] 998 PUF .
(4) إيل باييس ، مدريد ، 16 أكتوبر 1998 .
بقلم : إغناسيو راموني
طريقة في النظر [ Manière de voir ]
ما هي الحالة الراهنة للعالم ؟ ..إن الظاهرة المركزية فيه هي أنه تم إقحام جميع الدول في ديناميكية العولمة ، ويتعلق الأمر هنا بثورة رأسمالية ثانية ، والعولمة تطال أبعد مكان قصي في الكرة الأرضية متجاهلة بذلك أيضا استقلال الشعوب وتنوع الأنظمة السياسية.وبذلك تعرف الأرض عصر غزو جديد كما كان الحال إبان الاكتشافات الجغرافية أو الحملات الاستعمارية، غير أنه إذا كان الفاعلون الأساسيون في حالات الغزو التوسعي عبارة عن دول ، فإنهم في هذه المرة عبارة عن مقاولات وشركات عملاقة ومجموعات صناعية ومالية خاصة تنوي فرض سيطرتها على العالمين. والملاحظ أنه لم يسبق أبدا أن كان أسياد الأرض بهذه القلة من حيث العدد و لا بهذه القوة . وهذه المجموعات تتموقع بداخل الثلاثي : الولايات المتحدة ـ أوربا واليابان، لكن نصفها يحط رحاله بالولايات المتحدة الأمريكية ، ومن ثمة فهي ظاهرة أمريكية بامتياز.
لقد تسارع تمركز رأس المال والسلطة هذا بشكل عجيب خلال العشرين سنة الأخيرة تحت تأثير ثورة تكنولوجيات الإعلام، وسيتم تحقيق خطوة إلى الأمام انطلاقا من بداية هذه الألفية من خلال أشكال التحكم الجديدة في التقنيات الجينية لتلعيب الحياة والتحكم فيها، وخوصصة الجينوم الإنساني وتعميم إضفاء براءات الاختراع على الكائن الحي تفتح آفاقا جديدة لتوسع الرأسمالية. إن خوصصة كبرى لكل ما يتعلق بالحياة الطبيعية يتم إعدادها مشجعة بذلك فرص ظهور سلطة ربما أكثر إطلاقية من كل ما خبرناه عبر التاريخ بأكمله.
إن العولمة لا تستهدف غزو البلدان أكثر مما تستهدف غزو الأسواق ، والهم الأساسي لهذه السلطة الحديثة ليس هو غزو الأراضي كما كان الشأن إبان الحملات الكبرى أو الفترات الاستعمارية ، وإنما هو وضع اليد على الثروات.
ويصاحب هذا الغزو بأشكال من التدمير هائلة ؛ فصناعات بأكملها تلحقها النكبة بوحشية في كل الجهات والمناطق ، مع كل الآلام الاجتماعية الناجمة عنها : بطالة جماهيرية ، تشغيل متدن ، هشاشة ، إقصاء ، 50 مليونا من الفقراء بأوربا ، ومليار من العاطلين والموسميين بالعالم . . . استغلال متفاحش للرجال والنساء ـ وبشكل فضائحي ـ للأطفال : 300 مليون طفل يتم استغلالهم في ظروف عنف غير مسبوق.
إن العولمة أيضا هي نهب البسيطة؛ فكبريات المجموعات تدمر البيئة بوسائل متجاوزة للحدود ، وهي تستخلص الأرباح من ثروات الطبيعة التي هي ملك مشترك للإنسانية ، وهي تفعل ذلك بدون رادع و لا فرامل ، ويصاحب ذلك أيضا بجرائم مالية مرتبطة بأوساط الأعمال وكبريات الأبناك التي تدر مبالغ تتجاوز 1000 مليار دولار سنويا ، أي أكثر من الناتج الوطني الخام لثلث الإنسانية.
إن التبضيع المعمم للكلمات والأشياء ، للأجساد والأرواح ، للطبيعة والثقافة ، يحدث تعميقا للفوارق؛ فنحن نعرف أن الهوة التي تفصل الأغنياء عن الفقراء تم حفرها خلال عشريتي اللبرالية الفائقة ( 1979 ـ 1999 ) ، لكن كيف يمكن تصور هوة سحيقة كهاته ؟ .. عندما نعلم أن 3 أشخاص من الأكثر غنى في العالم يمتلكون ثروة تفوق حصيلة النتاجات الداخلية الخام PIB (1) في 48 بلدا من البلدان الأكثر فقرا، أي ربع مجوع الدول في العالم. . .
إننا تكتشف أيضا أنه إذا كان " لدى 20% من سكان العالم الذين يعيشون في البلدان الأكثر غنى سنة 1960 عائد أكبر ب 30 ضعفا من عائد 20% من السكان الأكثر فقرا ، وأن هذا العائد كان سنة 1995 أكبر ب 82 ضعفا (2) " ، فإن العائد حسب كل ساكن في أكثر من 70 بلدا هو أقل مما كان عليه قبل 20 سنة .. . وأن قرابة 3 مليار شخص على مستوى البسيطة ـ أي نصف البشرية ـ يعيشون بأقل من 10 فرنكات يوميا.
لقد بلغ تعاظم الخيرات مستويات غير مسبوقة ، لمن عدد أولئك الذين لا سقف لهم و لا شغل و لا ما يكفي من الطعام يتعاظم دون توقف. وهكذا ، فمن بين 4,5 مليار نسمة التي تضمها البلدان المتخلفة، نجد أن ثلثهم يفتقد الماءالشروب وخمس الأطفال لا يلتهمون ما يكفي من الحراريات والبروتينات ، وملياران من الأفراد ـ ثلث البشرية ـ يعانون من مرض فقر الدم.
فهل هذه الوضعية قضاء وقدر ؟ .. لا ؛ لأنه يكفي ـ حسب الأمم المتحدة ـ اقتطاع أقل من 4% من الثروات المراكمة لدى أصحاب أكبر وأضخم ثروات العالم المقدرة ب 225 ثروة ، حتى يتم إشباع حاجات كل سكان الأرض من الغذاء والماء الشروب والتعليم والصحة. إن التوصل إلى الإرضاء الكوني للحاجات الصحية والغذائية الأساسية لن يكلف سوى 13 مليارا من الدولارات ، أي بالكاد ما يصرفه سكان الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي سنويا في مجال استهلاك العطور . . .
إن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي احتفلنا في ديسمبر 1998 بذكراه الخمسينية يؤكد ما يلي : " لكل شخص الحق في عيش كريم يضمن صحته ورفاهيته وكذا صحة ورفاهية عائلته ، وخاصة التغذية واللباس والسكن والعلاجات الطبية، وأيضا الخدمات الاجتماعية الضرورية"، إلا أن هذه الحقوق أضحت حقوقا يعسر تحقيقها والوصول إليها في أعين الجزء الأعظم من البشرية.
لنتناول على سبيل المثال مثال التغذية، إن الغذاء غير مفتقد ؛ فلم يسبق للمواد الغذائية أبدا أن كانت بهذه الوفرة ، وهي من شانها أن تمكن كل فرد من 6 مليار نسمة على وجه البسيطة من أن يضمن على الأقل 2700 سعرة حرارية يوميا ، إلا أنه لا يكفي إنتاج المواد الغذائية ، إذ يجب أن تتمكن الجماعات الإنسانية التي هي في حاجة إليها من شرائها واستهلاكها ، وهو ما هو غير متحقق بالفعل، لأن 300 مليونا من الأفراد يموتون سنويا بسبب الجوع ، وأكثر من 7800 مليونا يعانون من سوء التغذية المزمن.
وهنا أيضا ليس هناك ما لا يمكن تفاديه . إن الإفلاسات المناخية هي في الغالب حالات متوقعة ، وعندما يكون بإمكان منظمات إنسانية أن تتدخل ، فإن منظمات مثل [ حركة مناهضة الجوع ] يمكنها أن تقضي على مجاعة ناشئة خلال بضعة أسابيع. ومع ذلك ، فغن المجاعة تستمر في القضاء على ساكنات بأكملها.
لماذا ؟ .. لأن الجوع تحول إلى سلاح سياسي كما كتب سيلفي برونيل يقول : " لم تعد الشعوب العدوة ، والشعوب التي هي برسم الغزو هي الشعوب الجائعة ، وإنما هم السكان الذين ينتمي إليهم أولئك الذين يريدون ـ لمصلحتهم الخاصة ـ أن يتحايلوا على هذه الصراعات الجديدة ، التي هي كشافات ضوئية إعلامية مع لوازمها وانطلاق للرأفة العالمية من عقالها، كما أنها منبع لا ينضب للمال والغذاء ومنصات عمومية لعرض مطالبهم ". (3)
إن مسؤولين حكوميين أو زعماء حرب بالصومال ، بالسودان ، بليبريا ، بسيراليون، بكوريا الشمالية أو ببيرمانيا يأسرون الأبرياء ويجوعونهم بغرض تحقيق مراميهم السياسية ، وأخيرا ، فقد أصبح دور المناخ في الجماعات الكبرى دورا هامشيا ، إذ أن الإنسان منذ اليوم هو الذي غدا يجوع الإنسان وليس المناخ.
إن البروفيسور أمارتيا سن ، الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد سنة 1998 ، والمعروف بأعماله التي يبين فيها كيف يمكن لسياسات بعض الحكومات أن تتسبب في المجاعة حتى عندما تكون المنتجات الغذائية متوفرة ، يؤكد ما يلي : " إن إحدى الوقائع الكبرى في تاريخ المجاعة المرعب تتمثل في أنه لم تحدث أبدا أية مجاعة خطيرة في أي بلد يتوفر على صيغة ديمقراطية للحكم وصحافة حرة نسبيا " (4) . وفي سياق معارضته للأطروحات الليبرالية الجديدة ، يعتبر السيد سن أنه يجب أن تسند للدولة وليس للسوق مسؤولية كبرى في مجال النهوض بالعيش الكريم وتوفيره لجميع أفراد المجتمع. ومع ذلك ، وفي لحظتنا الراهنة ، فإن البنيات الدولتية ، كما هو الحال بالنسبة للبنيات الاجتماعية التقليدية ، هي بنيات تم هزمها والتشطيب عليها بصورة مفجعة؛ فالدول تنهار في كل مكان تقريبا ببلدان الجنوب ، ومناطق السيبة والكيانات السديمية غير المحكومة تتطور مفلتة بذلك من أية مشروعية ومعاودة الإغراق في حالة الهمجية التي لا يستطيع أن يفرض القانون في إكارها إلا جماعات النهابين عبر فرض الإتاوات على السكان المدنيين، كما أن مخاطر من نوع جديد بدأت تظهر : الجريمة المنظمة ـ الشبكات المافيوزية ـ المضاربة المالية ـ الفساد الأكبر ـ انتشار أوبئة جديدة ( السيدا ـ إيبولا ـ كروزفيلد جاكوب . . الخ ) ـ أنواع حادة من التلوث وأشكال من التعصب الديني والعرقي ـ ظاهرة الاحتباس الحراري ـ التصحر وانتشار الأسلحة النووية . . . الخ.
وفي الوقت الذي يبدو فيه أن الحرية والديمقراطية قد انتصرا في عالم تخلص إلى حد كبير من الأنظمة السلطوية ، فإن أشكالا من الحظر والتلعيب بصيغ متعددة ومتنوعة تعود لتطفو على السطح من جديد بقوة ؛ أشكال جديدة ومغرية من " أفيون الجماهير " تقترح ضربا من " أفضل العوالم " التي تروح عن المواطنين وتحاول أن تصدهم عن النشاط الحقوقي والمطلبي. في عصر الاستلاب الجديد هذا ، وفي لحظة الثقافة العالمية و " الثقافة الشمولية " والرسائل الكونية ، تلعب تكنولوجيات الاتصال أكثر من أي وقت مضى دورا إيديولوجيا مركزيا من أجل تمليس الفكر وتسطيحه ، وكل هذه التغيرات السريعة والعنيفة تصيب الحكام السياسيين بالدوخة والاضطراب ؛ فهم في غالبيتهم يشعرون بأنهم فوجئوا بعولمة تغير قواعد اللعب وتجعلهم عاجزين جزئيا ، وذلك لأن أسياد العالم الحقيقيين ليسوا هم أولئك الذين يتحكمون في مظاهر السلطة السياسية وما يظهر منها على السطح.
وهذا هو السبب في أن المواطنين يضاعفون حالات التعبئة ضد السلط الجديدة كما رأينا ذلك في بداية دجنبر 1999 بمناسبة قمة المنظمة العالمية للتجارة OMC بسياتل. إنهم يظلون مقتنعين بأن هدف العولمة في العمق ، في غبش الألفية الجديدة هاته ، هو تدمير ما هو جماعي ، والاستحواذ عن طريق السوق والقطاع الخاص على المجال العمومي والاجتماعي . . . . وقد قرر هؤلاء المواطنون أن يتصدوا لذلك.
هوامش :
(1) قيمة مجمل الإنتاج ( خيرات وخدمات ) في بلد ما .
(2) التقرير العالمي حول التنمية البشرية 1998 ، برنامج الأمم المتحدة من أجل التنمية PNUD ، نيويورك ـ شتنبر 1998 .
(3) إقرأ سيلفي برونيل وجان لوك بؤدان " جغرافية الجوع السياسية ، عندما يتحول الجوع إلى سلاح " [ التقرير السنوي لحركة مناهضة الجوع ] 998 PUF .
(4) إيل باييس ، مدريد ، 16 أكتوبر 1998 .
هناك تعليق واحد:
اتمنى لك مزيد من الابداع والتألق
تقبل مروري
إرسال تعليق