الاثنين، 22 مارس 2010

الهشاشة اليوم في كل مكان


بقلم : بيير بورديو
عن : نقيض نار(نصوص من أجل خدمة حركة مناهضة المد النيوليبرالي)أبريل 98.
إن مجهود التفكير الجماعي الذي مورس هنا خلال يومين متتاليين هو مجهود جد أصيل ؛ وذلك لأنه جمع أناسا لم تتوفر لهم أبدا فرصة الاجتماع والاحتكاك ببعضهم البعض : مسؤولون إداريون وسياسيون ، نقابيون ، باحثون في الاقتصاد وعلم الاجتماع، عمال هم غالبا مؤقتون وعاطلون . إنني أحب أن أذكر بعض المشاكل التي نوقشت خلال هذين اليومين، وأولاها، والتي هي مقصاة ضمنيا في الاجتماعات العالمة، تتمثل في السؤال التالي: ما الذي سينتج في المحصلة عن كل هذه المناظرات ، أو بعنف أكثر ، ما هي الأغراض التي ستخدمها هذه النقاشات الفكرية؟.. وبشكل مفارق فإن الباحثين هم الذين سيقلقون أكثر من هذا السؤال، أو إن هذا السؤال هو سؤال باعث أكثر على القلق ( وأنا أعني هنا خاصة الاقتصاديين الحاضرين معنا هنا ، وإذن فأولئك الذي يقلقون من حقيقة الواقع الاجتماعي أو حتى من الحقيقة على الإطلاق لا يمثلون إلا قليلا مهنة هم بداخلها جد ناذرين ) بالنسبة لذاك الذي يرى السؤال وهو يطرح بشكل مباشر(وتلك بدون شك أحسن طريقة لطرح السؤال). إن الواقع بوصفه قاسيا وساذجا يذكر الباحثين بمسؤولياتهم التي يمكن أن تكون أكبر وأضخم على الأقل عندما يساهمون بفعل سكوتهم ومشاركتهم الفاعلة في الحفاظ على النظام الرمزي الذي هو شرط اشتغال النظام الاقتصادي.
ويبدو واضحا أن الهشاشة اليوم هي في كل مكان ، في القطاع الخاص كما في القطاع العام أيضا الذي ضاعف المناصب المؤقتة أو النيابية بداخل المقاولات الصناعية وأيضا بمؤسسات الإنتاج والنشر الثقافيين، تعليما وصحافة ووسائل إعلام . . . إلخ، حيث تحدث تأثيرات هي دائما متشابهة تقريبا ، تصبح منظورة بشكل خاص في حالة العاطلين القصوى : تحطيم بنية الوجود المحروم ، إلى جانب أشياء أخرى ، من بنياته الزمنية،وانحطاط مجموع العلاقة بالعالم ، بالزمان والمكان التي تعقب ذلك.إن الهشاشة تفعل فعلها بعمق في ذلك أو تلك التي تصاب بها، بإحالة كل المستقبل مستقبلا غير مأمون، إنها تحظر أي استباق عقلاني وبخاصة هذا الحد الأدنى من الإيمان أو الأمل في المستقبل الذي يجب امتلاكه من أجل امتلاك القدرة على الثورة أو التمرد ، جماعيا خاصة ، على الحاضر حتى أكثره عدم قابلية للتحمل.
وتنضاف لتأثيرات الهشاشة على أولئك الذين تمسهم مباشرة ، التأثيرات الممارسة على مجموع الآخرين الذين يبدو ظاهريا أنها تستثنيهم، إنها لا تمكن أحدا من نسيانها ، إنها حاضرة في أية لحظة ، في جميع الأذهان ( ما عدا بدون شك أذهان الاقتصاديين الليبراليين ، وذلك لأنهم ربما وكما لاحظ أحد خصومهم النظريين ، يستفيدون من هذا الضرب من النزعة الحمائية التي تمثلها الإقطاعة ، أي وضعية الترسيم التي تضمن لهم الأمان . . . ) إنها تخز الضمائر وتلاحق غير الواعين .إن وجود جيش هام من الاحتياطيين لم نعد نجده فحسب بفعل الإنتاج الزائد لحملة الشواهد على المستويات الأدنى من حيث الكفاءة والتأهيل التقني ، يسهم في جعل كل عامل على حدة يحس بفقدانه لما لا يمكن تعويضه ، وبأن عمله أو وظيفته امتياز نوعا ما ؛ امتياز هش ومهدد ( وذلك ما يذكره به إضافة إلى ذلك عند طيشه الأول مشغلوه والصحافيون والمعلقون من كل لون وجنس في إضرابه الأول ) . إن التهديد وانعدام الأمان الموضوعي يؤسس انعداما ذاتيا للأمن معمما يفعل فعله في يومنا هذا بقلب اقتصاد في أعلى درجات تطوره في مجموع العالم ، وحتى في أولئك الذين لم يمسسهم أو لن يمسهم مباشرة انعدام الأمان هذا. إن هذا الضرب من ” العقلية الجماعية ” ( وأنا أستعمل هذا التعبير رغم أنني لا أحبه كثيرا من أجل الإفهام فقط ) الموحدة في العصر بأكمله هي في مبدأ الحط من المعنويات وإخماد التعبئة التي يمكن ملاحظتها ( كما فعلت في الستينيات في الجزائر ) في بلدان متخلفة منكوبة جراء إصابتها بمعدلات انعدام الشغل أو التشغيل الناقص الكثيرة الارتفاع والمسكونة دوما بهاجس البطالة.
إن العاطلين والعمال المؤقتين ، نظرا لأنهم مسوا في قدرتهم على رسم مشاريع للمستقبل ، والتي هي شرط كل السلوكات المعتبرة عقلانية ابتداء بالحساب الاقتصادي ، أو في نظام مغاير تماما ، أي التنظيم السياسي ، فإنهم لم يعودوا قابلين للتعبئة أبدا. وبشكل مفارق ، كما أوضحت ذلك في العمل والعمال بالجزائر (1) ، وهو كتابي الأقدم وربما الأكثر راهنية من أجل تصور مشروع ثوري ؛ أي طموح معقول لتغيير الحاضر من خلال مرجعية مستقبل مرسوم ، فإنه يتوجب امتلاك حد أدنى من التجكم والإمساك بالحاضر. إن البروليتاري هو بخلاف البروليتاري ـ السفلي في هذا الحد من الضمانات الحاضرة والأمان الذي هو ضروري من أجل تصور طموح لتغيير الحاضر بعامل المستقبل المأمول، غير أنه وكما يقال ، هو أيضا شخص لا زال لديه شيء ما يدافع عنه ، شيء ما يفقده ، وهو عمله ولو كان مرهقا وتافه الأجر ، وعدد من سلوكاته الموسومة أحيانا بالحذر البالغ أو بالمحافظة حتى ، يهيمن عليها كمبدأ الخوف من السقوط إلى القاع والهبوط العائد نحو البروليتاريا ـ السفلى.
عندما تبلغ البطالة ، كما هو الحال اليوم في عدد من بلدان أوربا ، معدلات جد مرتفعة ، وتحيق الهشاشة بجزء هام من الساكنة : عمالا ومستخدمين في التجارة والصناعة ، وصحافيين ومدرسين وطلبة أيضا ، فإن العمل يصبح شيئا ناذرا ومرغوبا فيه بأي ثمن ، يضع العمال تحت رحمة مشغليهم ، وهؤلاء كما يمكننا أن نلحظ ذلك كل يوم ، يستخدمون ويفرطون في استخدام السلطة التي تمنح لهم جراء ذلك. إن التنافس من أجل الحصول على عمل يصبح زوجا لتنافس في العمل هو أيضا شكل من أشكال التنافس على العمل الذي يتوجب الحفاظ عليه وحمايته أحيانا بأي ثمن من ابتزاز التسريح. إن هذا التنافس الذي هو أحيانا بنفس وحشية التنافس الذي تمارسه المقاولات فيما بينها ، هو في جذر صراع حقيقي للجميع ضد الجميع مدمر لكل قيم التضامن الإنسانية ، وأحيانا ، في جذر عنف صامت بدون كلمات. إن أولئك الذين يأسفون لنزعة اللامبالاة التي تسم من وجهة نظرهم رجال ونساء عصرنا ، لا ينبغي عليهم إهمال مسألة إرجاعها للظروف الاقتصادية والاجتماعية التي تفرزها أو تشترطها .
وهكذا فإن الهشاشة تفعل فعلها في أولئك الذين تمسهم مباشرة ( وهي تجعلهم في حالة عدم القابلية للتعبئة ) وبشكل غير مباشر في كل الآخرين بفعل الخوف الذي تحدثه وتستثمره منهجيا استراتيجيات التفقير والهشاشة كإقحام ” المرونة ” الذائعة الصيت، والتي نفهم منها أنها مستلهمة من مبررات سياسية أكثر منها اقتصادية .
نشرع بذلك في التشكك في أن الهشاشة ليست نتاج قدرية اقتصادية معروفة ومشبهة ب ” العولمة ” الشهيرة ، وإنما هي نتاج إرادة سياسية . إن المقاولة ” المرنة ” تستغل نوعا ما بشكل واع وعن سبق إصرار وضعية لاأمان تسهم في تقويتها : فهي تروم الإنقاص من تكاليفها وأيضا جعل هذا الإنقاص ممكنا بتعريض العامل لخطر دائم بفقدان عمله. إن كل عالم الإنتاج المادي منه والثقافي ، العمومي والخصوصي ، يجد ذاته مدفوعا هكذا نحو سيرورة واسعة للتفقير والهشاشة مثلا من خلال تهجير المقاولة التي ارتبطت حتى ذلك الحين بدولة / أمة أو بمكان ما ( مضيق توران بالنسبة لصناعة السيارات ) ، وهذه المقاولة تنزع أكثر فأكثر نحو التحلل والتفكك من خلال ما يدعى ” المقاولة الشبكة ” التي تتمفصل على مستوى قارة أو على مستوى البسيطة بأكملها ، بوصل أجزاء الإنتاج والمعارف التكنولوجية وشبكات الاتصال ومدارات التكوين الموزعة على أماكن جد متباعدة.
بتيسر أو تنظيم حركية الرأسمال و ” التهجير ” نحو البلدان ذات الأجور الأكثر انخفاضا ، وحيث كلفة العمل أكثر ضعفا ، تم تسهيل انتشار التنافس فيما بين العمال على مستوى العالم ؛ فالمقاولة الوطنية ( أو التي أحيلت وطنية ) والتي كانت منطقة التنافس لديها مرتبطة بشكل قوي إلى حد ما بالتراب الوطني ، والتي كانت تذهب لغزو أسواق خارجية ، تنازلت عن مكانتها للمقاولة المتعددة الجنسيات التي جعلت العمال في حال تنافس لا مع مواطنيهم وحدهم فقط ، أو حتى كما يريد الديماغوجيون أن يوهمونا بذلك ، مع الغرباء المنزرعين بالتراب الوطني والذين هم بداهة أول ضحايا تفقير الهشاشة ، وإنما مع عمال الطرف الآخر من العالم الذين هم مكرهون على قبول أجور بئيسة.
إن الهشاشة تندرج ضمن نمط هيمنة من نوع جديد مشيد على تأسيس حال معممة ودائمة من اللاأمان تستهدف إكراه العمال على الخضوع للاستغلال وتقبله. ولرسم معالم نمط الهيمنة هذا الذي هو غير مسبوق تماما ولو أنه يشبه إلى حد بعيد في تأثيراته الرأسمالية المتوحشة الأصلية ، فقد اقترح أحدهم بهذا الخصوص مفهوما هو في نفس الآن أكثر تعبيرا وأكثر إيفاء بالغرض ألا وهو مفهوم Flexploitation (= الاستغلال المرن ) . إن هذه الكلمة تعرض تماما هذا التدبير العقلاني لحالة اللاأمان التي بإقامتها عبر الفبركة المقصودة لفضاء الإنتاج خاصة ، للتنافس فيما بين عمال البلدان التي تنعم بمكتسبات اجتماعية جد هامة ومقاومة نقابية أفضل تنظيما ـ وعديد من الملامح المرتبطة بتراب وتاريخ وطنيين ـ وعمال البلدان الأقل تقدما على المستوى الاجتماعي ، فإنها تكسر بذلك أشكال المقاومة وتحقق الطاعة والخضوع وتضمنهما عن طريق ميكانيزمات تبدو طبيعية ظاهريا ، وهي كذلك في أعين مبرراتها الخاصة.إن هذه الإجراءات الطبيعية التي تنتجها الهشاشة هي شرط استغلال ” ناجح ” أكثر فأكثر مؤسس على القسمة بين أولئك الذين ، وهم أكثر عددا ، لا يعملون ، وأولئك الذين ، وهم أقل فأقل عددا ، يعملون ، لكنهم يعملون أكثر فأكثر . يبدو لي إذن أن ما هو معروض باعتباره نظاما اقتصاديا مقادا من قبل قوانين لا تقبل المرونة لنوع ما من الطبيعة الاجتماعية هو في الحقيقة نظام سياسي لا يمكن أن يتشيد إلا عبر التواطؤ الفعال أو المنفعل من قبل السلطات المحض سياسية.
ضد هذا النظام السياسي يعتبر الصراع السياسي المناهض له مسألة ممكنة، ويمكن لهذا الصراع أن يحدد لذاته كهدف أول الحركة الإحسانية ـ المناضلة وتشجيع ضحايا الاستغلال وكل الموسميين الحاليين والمفترضين على العمل معا ضد تأثيرات الهشاشة المدمرة ( بمساعدتهم على العيش وعلى ”الصمود” والتماسك ، على إنقاذ كرامتهم والصمود في وجه التدمير ، في وجه انحطاط صورة الذات وفي وجه الاستلاب ) والتعبؤ خاصة على المستوى العالمي ؛ أي على المستوى ذاته الذي تمارس فيه تأثيرات سياسة الهشاشة ، وذلك من أجل مقاومة هذه السياسة وتحييد التنافس الذي تروم إقامته في ما بين عمال مختلف البلدان. إلا أن هذا الصراع يمكن أيضا أن يحاول انتشال العمال من منطق الصراعات القديمة التي باعتبارها مؤسسة على المطالبة بالعمل أو بأجر أفضل مقابل العمل ، تنغلق بداخل العمل والاستغلال أو بداخل Flexploitation الاستغلال المرن الذي يسمح به هذا المنطق، وذلك بفعل إعادة توزيع العمل ( عبر إنقاص كبير للمدة اليومية للشغل على مستوى أوربا ) ، إعادة توزيع لا تقبل الانفصال عن إعادة تعريف وتحديد للتوزع بين الوقت المخصص للإنتاج والوقت المخصص لإعادة الإنتاج ، أي وقت الراحة وأوقات الفراغ.
ثورة يتوجب أن تبدأ من خلال التخلي عن النظرة الحسابية الضيقة والفردانية التي تحول الناس إلى حاسبات مشغولة بحل مشاكل معينة ، وهي مشاكل محض اقتصادية بالمعنى الأكثر ضيقا للفظ. وحتى يشتغل النظام الاقتصادي ، يتوجب أن يحمل له العمال شروطهم الخاصة للإنتاج وإعادة الإنتاج ، وأيضا شروط اشتغال النظام الاقتصادي ذاته ، بدءا بإيمانهم بالمقاولة وبالعمل وبضرورة العمل . . .إلخ ، وهي أشياء كثيرة أقصاها الاقتصاديون الأورثودوكس قبليا من محاسبتهم المجردة والمشوهة ، ملقين ضمنيا مسؤولية إنتاج وإعادة إنتاج كل الظروف الاقتصادية والاجتماعية الخفية لاشتغال الاقتصاد كما يفهمونه هم على الأفراد أو ، وتلك مفارقة أخرى ، على الدولة التي ينشدون فضلا عن ذلك دمارها.
غرونوبل ، ديسمبر 1997
****************************
مداخلة بمناسبة لقاءات أوربية ضد الهشاشة ، غرونوبل 12 ـ 13 ديسمبر 1997.
1) بورديو : العمل والعمال في الجزائر ، باريس ـ لاهاي ـ موتون ، 1963 ( بمعية أ. داريل ، ج.ب. ريفر ، س. سيبل ) ؛ الجزائر 60 . البنيات الاقتصادية والبنيات الزمنية ، باريس ، منشورات مينوي ، 1977.

هناك 3 تعليقات:

محمد عبد التواب يقول...

مقال رائع ومدونة جميلة ومهمة ومفيدة شكرا لك وبالتوفيق ...

أنا واصل دوت كوم يقول...

بارك الله فيك
تدوينة رائعة جدا

أحدث شركات التوظيف في مصر يقول...

مدونة رائعة جدا
الى الامام و بالتوفيق ان شاء الله