
في آخر حوار معه قبل رحيله:
هكذا تكلم دريدا
انطفأت شمعة جاك دريدا يوم 9 أكتوبر 2004 ، ولقد كان لفرانز أوليفيي جيسبير حظ الالتقاء مع هذا الفيلسوف اللامع والكبير لمرات متعددة . . .
ومنذ موته يوم السبت الأخير ، لم يعد بإمكان الفرنسيين أن يجهلوا أن جاك دريدا كان الفيلسوف المعاصر الذي عرفت أعماله أكبر قدر من التعاليق والترجمة. لقد التقينا عدة مرات ، وفي أحد الأيام سجلت معه حوارا أردته أن يكون في متناول الجميع ؛ أي ضربا من المدخل العام لأعمال هذا الفيلسوف ، وذلك للتعريف به بشكل أفضل . وفي يوم 29 يونيه ، وهي آخر مرة نتناول فيها طعام الغذاء سوية ، سلمته مسودة الحوار لإدخال تعديلاته عليها ، لكنني لم أتمكن بعدها من لقائه ، فقد كان يعاني كثيرا من مرض السرطان ، كما كان منشغلا بمحاضراته وسفرياته ، لذلك فإنني أنشر هنا ـ وللتاريخ ـ نص الحوار الذي دار بيني وبينه دون تعديل.
لوبوان : إذن فأنت الفيلسوف المعاصر المقروء والمذكور أكثر من غيره
جاك دريدا : ( يضحك ) لست أنا هذا الشخص الذي تتحدث عنه
لوبوان : أتريد أن تقول إنك لست في مستوى ذلك
ج د : بالعكس ، لكنه ليس أنا ؛ فعندما أكتب أو أتحدث إلى الجمهور ، يكون هناك دائما أنا آخر بداخلي يلاحظ ويحلل ، ومن ثم ينتابني نوع من الضيق : أحيانا لا أشتكي من ذلك ، بل أقول لنفسي بأنه علي أن أفعل ما هو مطلوب لكي أغدو ذلك الشخص ، لكنه يتوجب علي بدون توقف، حتىأستمر في العمل والتفكير، التخلص من هذا الشخص الذي تتحدث عنه.
لوبوان : إذن فأنت تسافر كثيرا لكي تفلت من قبضة هذا الشخص؟
ج د : أنا في حاجة للسفر لأفهم ما يحدث في العالم ، لكنيي أعلم أيضا أنه لا يمكن أن أبقى في فرنسا دون أن أشعر بالاختناق.
ل : لماذا ؟ ..
ج د : لأبسط . . . يبدو لي أن المسرح الثقافي والفلسفي في فرنسا يظل رغم بعض الاستثناءات جد محدود وجد محلي ، وهو أيضا أكثر سلبية في علاقته بي أنا خاصة .
ل : إن الأجانب يحبونك ، أما الفرنسيون فيكرهونك ، لماذا ؟ ..
ج د : ( صمت ) هذا ما أحاول فهمه .
ل : ألا تكون غيرة زملائك منك هي سبب ذلك ؟ ..
ج د : تلك ظاهرة كلاسيكية ودائمة العود ، والفلاسفة لا يقرأون في غالب الأحيان في بلدانهم كما يقرِأون خارجها.
ل : أنت بدورك لا تبذل مجهودا كبيرا بهذا الصدد ؛ فأنت أكثر غموضا واستغلاقا على الفهم .
ج د : لو كنت غامضا ومبهما لكان ذلك صحيحا أيضا بالنسبة لكتبي المترجمة إلى اليابانية أو الإنجليزية ، بيد أن الناس يقرأون كتبي هناك كثيرا ... إنني أرفض تهمة الغموض والإبهام ؛ فذاك مبرر ينطوي على سوء نية.
ل : كيف أصبح دريدا ما هو إياه ؟ .. والذي أشعل شرارة موهبتك الفلسفية ؟..
ج د : لقد ترعرعت بالجزائر في كنف أسرة لم يكن ببيتها كتب ، ولم أكتشف جان جاك روسو ونيتشه أولا إلا بالمدرسة ، ثم اكتشفت بعدهما أندريه جيد وفاليري . في البداية لم أكن أميز بين الفلسفة والأدب ؛ فقد كانت لدي على الخصوص رغبة في كتابة روايات أو أشعار، وأن أصير أستاذا للآداب لكسب القوت، ولم أختر الفلسفة إلا عندما كنت داخليا بالجزائر ، مع استمرار اهتمامي بالآداب ، وهذا هوما دفع البعض إلى اتهامي بخلط الأصناف والاهتمامات ، وتلك مشكلة قديمة قدم التاريخ.
ل : ألديك حنين دائم إلى الجزائر ؟ ..
ج د : نعم بطبيعة الحال ، فكل ما يحدث هناك يؤثر في بشكل كبير.
ل : لماذا يحيق بالجزائر إلى هذا الحد ما يمكن أن نسميه الشقاء العربي ؟ ..
ج د : إن التراجيديا الجزائرية تفسر في جزء كبير منها بظاهرة الاستعمار؛ فعندما قرر البلد التحرر من الاستعمار ، كان النموذج الذي وجده أمامه هو نموذج الدولة / الأمة الأوربية الحديثة ، إلى جانب الأسلحة ، أي البدائية باختصار ، ومن هنا التراجع والانحطاط الذي تلا ذلك والذي كان اقتصاديا وإيديولوجيا ودينيا.
ل : هل كنت من أنصار استقلال الجزائر باعتبارك فرنسيا؟ ..
ج د : إنني كنت أتفهم طموحات الجزائريين ، كما كنت في الآن نفسه أتمنى أن يتم إيجاد نوع من التنظيم السياسي يمكن فرنسيي الجزائر من البقاء فيها.
ل : لقد كانت الجزائر تحتاج لرجل شبيه بمانديلا . . .
ج د : إن مانديلا مطلوب في كل مكان وعلى صعيد كل القارات ، وحتى يومنا هذا فالأمور ليست على ما يرام بجنوب إفريقيا.
ل : لقد غادرت الجزائر سنة 1949 لتصبح داخليا بباريس بليسي لويس الأكبر ، فكيف عشت تلك الحقبة من تاريخك ؟ ..
ج د : من الجزائر البيضاء ، وصلت إلى باريس المدينة السوداء ، ولأنني كنت داخليا لأول مرة في حياتي ، فقد شعرت بنفسي كما لو كنت سجينا ، لقد كنت في السابعة عشرة من عمري وكنت أبكي كطفل صغير .
ل : أكانت لديك نماذج ؟ ..
ج د : لقد كنت أقدر سارتر وأحلم بسذاجة بأنني على صورته ؛ أي فيلسوفا يكتب الروايات ، وكنت قد تأثرت في السابق بأندريه جيد الذي قرأته بجنون من كتابه " Paludes " إلى كتابه " اللاأخلاقي " ، وهو بالنسبة لي لم يكن رومانسيا وإنما كان رجل أخلاق ، لقد كان يقول لنا كيف يجب أن نحيا ونعيش ، والفلسفة في العمق كانت دوما تلك طبيعتها من وجهة نظري : أي البحث عن أخلاق وعن نمط للعيش والحياة.
ل : ألديك إحساس بأن الفلسفة تقدمت بالفعل منذ أفلاطون وأرسطو إلى أيامنا هاته ؟ ..
ج د : أصل الفلسفة والتفلسف هما أفلاطون وأرسطو ، وبعدهما لم يحدث سوى أن الفلسفة عرفت تحولات مع كانط أو هيجل ، لكن لا يمكننا الجزم بأنها تراجعت وتقهقرت ، لا بد من الحديث عن التراكم والتركيز والإنجاز . وحتى إذا كان ديكارت قد حاول محو أرسطو ، فنحن نعلم أنه لم ينطلق من الصفر ، إذ يمكن الذهاب إلى أن ديكارت هو وريث أرسطو .
ل : في كتابه " Apories إحراجات " أوضحت أن الفلسفة مجموعة من الإحراجات ، وأن أفضل وسيلة لممارستها تتمثل في مقاومة التناقضات . . .
ج د : لا . . لا يتعلق الأمر بالمقاومة ، بل بالتحمل والجلد ؛ فالإحراجات لا يمكننا مقاومتها لأنها على درجة كبيرة من القوة .
ل : إذن فأنت تتألم كثيرا وتعاني ؟ ..
ج د : (ضحك) أقضي الوقت في المعاناة. إنني لست مازوخيا ، لكنني أجدني دائما محاصرا بإيعازات متنافرة ، فمثلا فيما يتعلق بالحوار الذي نجريه الآن ، أقول لنفسي من جهة إن من واجبي أن أتواصل مع الآخرين ، كما أعتقد من جهة أخرى أنه لا يمكن معالجة موضوعات هي بهذه الدرجة من الأهمية من خلال بضع كلمات : فهذا عمل لا مسؤول . لا بد من محاولة إيجاد التوافق الأقل عرضة للاتهام ، إذن فأنا أتفاوض مع نفسي.
ل : ما الذي يمكن أن تكون عليه مكانة الفلسفة اليوم في المدينة؟ ..
ج د : لقد حاول أفلاطون أن يفرض القانون الفلسفي على ديكتاتور سيراكوس الصغير فعرفت محاولته إخفاقا يدعو للرثاء. إن كل فيلسوف يحلم ومنذ القديم وبدرجات متفاوتة أن يكون مستشارا للأمير فيالظل ، ويجب تصفية الحساب مع هذه المحاولة. لكنني بالمقابل أؤمن كثيرا بالتحالف في ما بين الشأنين السياسي والفلسفي ؛ فبخصوص القضايا الأوربية أو التغيرات التي يعرفها القانون الدولي على سبيل المثال ، يلجأ السياسيون في الغالب إلى الفلاسفة ، ومعهم الحق في ذلك ؛ فالشأن السياسي هو شأن فلسفي في العمق ، كما هو حال الشأن القانوني أيضا ، والتفكيك يساعدنا على التفكير بشكل أفضل في هذه الأمور.
ل : إنك الفيلسوف الذي ابتكر فكرة التفكيك ، أليس ذلك هو سر نجاحك ؟ ..
ج د : إنني أجد في كل مكان أذهب إليه ، في الشرق الأوسط والصين ، في اليابان والولايات المتحدة أن مفهوم التفكيك يلاقي رواجا وإقبالا كبيرين ؛ فنحن بحاجة إليه دون شك كي نفهم عالمنا الذي نعيش فيه بشكل أفضل.
ل : كيف تعرف مفهوم التفكيك ؟ ..
ج د : يتعلق الأمر أولا بتحليل شيء ما تم بناؤه وتشييده ، ومن ثم فهو غير طبيعي ، ثقافة ما أو مؤسسة ما أو نص أدبي أو نظام لتأويل القيم ، وباختصار ببناء Constructum ، والتفكيك ليس هو التدمير ، إذ هو ليس مسعى سلبيا ، وإنما هو تحليل جينيالوجي لبنية ما مبنية ونريد تفكيكها
ل : إن الإنسانية لم تنتظر مجيء دريدا لكي تمارس عملية التفكيك وتتعلمه . . .
ج د : بالفعل ، فقد مارسته على الدوام دون أن تعرف أو تفطن ذلك؛ فمكا إن يقع حدث ما مثلا حتى نجد أن التفكيك يغشى المكان ، إن الحدث ليس قابلا للبرمجة لأنه يأخذنا على حين غرة ، إنه يصيبنا بالاضطراب ، والحدث هو التفكيــك .
ل : ألا يمكننا القول إن التفكيك هو الصيغة الحديثة للفكر النقدي؟ ..
ج د : نعم، بكل تأكيد ، مع إضافة أن التفكيك يتصدى أيضا لفكرة النقد ذاتها ، أنا لست ضد النقد ، بل أعتقد أنه يجب الدفع به إلى أقصى حد ممكن ، لكن هناك دائما لحظة يحدث أن أسائل نفسي فيها عن من أين جاء ، وباختصار ، فإن التفكيك لا يمكن إرجاعه إلى النقد ، فهو ليس سلبيا ، إنه فكرة نعم مؤكدة في التقليد الكبير ، أي التقليد النيتشوي.
ل : ما هو الإجراء الذي نقوم به عندما نقرر ممارسة عملية تفكيك شيء ما ؟ ..
ج د : يجب التوجه في البداية نحو الآخر ، والاعتراف به وفهمه إذا كان الأمر يتعلق بنص ، وأنا عندما أفكك أتساءل دائما عما يشكل فرادة وكلية النص ، عن الشخص أو عن الأمة التي أدرسها ، هذا هو ما يجعل من التفكيك قبل كل شيء إشارة أو علامة على الاحترام والمحبة.
ل : ألا يكون للشخص دائما ، عندما يكون فيلسوفا من فلاسفة التفكيك ، نزوع إلى تقطيع الشعرة إلى أربعة قطع ؟ ..
ج د : أنا لا أفهم لماذا يؤاخذونني بكوني أعقد الأمور ، كما لو أن الأشياء بسيطة ؟ وأنا أعتقد أنني أكون قد بسطتها غاية التبسيط قبلا عندما يتعلق الأمر بآخر ، بك أنت ، بي أنا ، بثقافة ، بلغة أو مؤسسة.
ü ل : وهذا ما يجعلك لا تحب الكلام أمام العموم ..
ج د : نعم ، وقبلا عندما أكتب أكون خائفا من التبسيط ، لكنني عندما أتكلم ، فالأمر يكون أسوأ من ذلك .
ل: هل تقرأ النصوص دائما عندما تقدم محاضرات؟ ..
ج د : نعم ، دائما ، حتى عندما أدرس أيضا
ل : أتعتقد أنه ليس بالإمكان تبليغ الأفكار إلا عن طريق الكتابة ؟ ..
ج د : إنني لا أستطيع أن أفكر دون أن أكتب ، حتى إذا كان يحدث لي غالبا أن أفكر وأنا أتمشى أو أقود سيارتي ، وأنا أكون مرغما على الكتابة إذا كنت أريد أن أنظم خطابي.
ل : هل أنت من الذين يعتقدون أن المكتوب مهدد اليوم ؟ ..
ج د : نعم ؛ فالكتاب مهدد بأشكال أخرى من القراءة ، وأنا لدي تعلق لبيدي وحسي بالكتاب ، إنه يضمن الدقة وكذا عمليتا الذهاب والإياب ، لكنني لا أعترض على ضرورة تطوير أدوات إعلامية أو دعامات أخرى ، كالحاسوب والويب والبريد الإلكتروني التي من فضائلها توسيع حقل الاتصال والتواصل.
ل : إنك تهتم منذ مدة طويلة بما تسميه تكنولوجيا الاتصال عن بعد« Télétechnologie » .
ج د : نعم ، غير أن بنية " الاتصال " قديمة قدم الإنسان ؛ إن الكتابة هي ذاتها "اتصال" ما دام هدفها ، كما يشير إلى ذلك روسو ، هو الاتصال عن بعد ، وما يحدث اليوم ، مع وساعة الاتصال هو أنه يمكننا أن نتواصل في أي مكان وفي اللحظة ذاتها.
ل : هل تقلقك العولمة المتسارعة لمجتمعاتنا ؟ ..
ج د : إن ما يقلقني هو إضفاء التجانس والنمطية على الثقافات وأشكال الهيمنة التي تتستر خلفه ، غير أنني أهنئ نفسي على أن مجتمعات جد منغلقة بدأت اليوم تنفتح وتتحرر بفضل العولمة ، و لا يمكن للمرء أن يكون ضد ذلك.
ل : من بين الظواهر التي تتعولم اليوم هناك ظاهرة التوبة ، فكيف تفسر الظاهرة وأنت من درسها لمدة طويلة ؟ ..
ج د : أولا بظهور مفهوم قانوني جديد على المسرح العالمي هو مفهوم الجريمة ضد الإنسانية ، ثم بفعل ما يمكن تسميته بحق تمسيح العالم (من المسيحية).
ل : إن الجميع يقول بأنهم يتخلصون من المسيحية !..
ج د : بالعكس ؛ حتى إذا كانت المسيحية في تراجع من جهة الدعوات الربانية وزيارة المعابد ، فإن وجهة نظرها هي في طريقها لتفرض ذاتها في كل مكان ، حتى بالبلدان التي لم يكن فيها أبدا أي تأثير يذكر للمسيحية . إن هذا الخطاب الأوربي حول الحق ، والذي أصبح مهيمنا وسائدا ، هو حامل لثقافة إبراهيمية ـ يهودية وإسلامية ، ولكنها مسيحية على الأخص ، وذلك لأن الصفح والتسامح هو أولا وقبل كل شيء مفهوم مسيحي . عندما يطلب وزير ياباني الصفح ، فهو يتحدث المسيحية ، والديبلوماسية والجغرافيا السياسية والشأن الإنساني أو القانون الدولي هي اليوم ، وبشكل واضح وجلي ، ذات استلهام مسيحي.
ل : إنك تقول هذا في الوقت الذي أضحت فيه الكنيسة هدفا بدل أن تكون مرجعا ! ..
ج د : الكل يعرف منذ زمن لوثر أن النزعة المعادية للمسيحية قابلة للتشبيه بالمسيحية ، لقد كان لوثر يدعي أنه يشتغل على التدمير ، وهي الفكرة التي تلقفها بعده هايدغر ، لكن الأمر كان يتعلق فعلا بالتفكيك وليس بالتدمير.
ل : كيف تفسر أننا نجد في زمن التوبة الكاملة بلدا مسيحيا، مثل الولايات المتحدة، يقوم بشكل كثيف وبضمير مرتاح، بإعدام المحكومين لديه بالإعدام؟ ..
ج د : إن الكنيسة لم تقم في يوم من الأيام بإدانة الحكم بالإعدام ، أما في فرنسا فقد تم ذلك سنة 1978 من خلال إعلان أصدره بعض رجال الدين ، لكن الفاتيكان امتنعت بالكامل عن القيام بذلك ، ولو نظرنا إلى المسألة تاريخيا ، لوجدنا أن الكنيسة كانت على الدوام مؤيدة للحكم بالإعدام.
ل : أين تموقع نفسك في إطار الجدل الفلسفي الكبير والمتعاظم الدائر حول حقوق الحيوانات ؟ ..
ج د : إن العلاقة بين الإنسان والحيوان هي أيضا في طريقها للتغير ، غير أنني لا أعتقد أن ذلك سيتحقق عبر القانون والحقوق ؛ فمن يتكلم عن الحقوق يتكلم عن الواجبات ، و لا أتصور حيوانات تحترم واجباتها . . .
ل : وأنت ، هل أنت عاشب أم لاحم ؟ ..
ج د : ليس بالمعنى الدقيق ، فحتى عندما يكون لديك نزوع لأكل أقل ما يمكن من اللحم ، فأنت تأكله على الأقل رمزيا . . .
ل : ماذا تعني ؟ ..
ج د : إن علاقتنا بالآخر هي دائما علاقة آكل لحوم البشر بفريسته ، والرغبة هي عملية أكل للحم البشري ، والكلام أيضا ، لكنه يبدو لي أن ما نفعله بالدجاج والخراف والخنازير في المزارع وفي المجازر هو بشع تماما ، وسأحاول أن أدرس في الشهور المقبلة الأسس السياسية للعنف اتجاه الحيوانات. لقد كانت الحيوانات في العصر الوسيط تحاكم ويتم إعدام الخنازير في الساحات العمومية وتصدر الأحكام على الذباب بالنفي، أما اليوم فيتم قتل الحيوان دون محاكمته. لقد قال ثيودور أدورنو إن الطريقة التي يتحدث بها الفلاسفة عن الحيوانات هي جوهر الفاشية ذاته ، وهو يرى أن الشتائم الموجهة للحيوانات هيمن نفس طبيعة الشتائم التي نكيلها للماديين واليهود أو النساء.
ل : لقد كتبت في مكان ما قائلا إننا لا نستطيع أن نتفلسف دون تحليل نفسي ، لكن هل يمكننا أن نتفلسف بدون أديان ؟ ..
ج د : لا بطبيعة الحال ، أنا لست متدينا و لا أمارس شعائر أي دين ، لكنني أنظر إلى ظواهر الإيمان بجدية فائقة.
ل : هل أنت مؤمن بالله ؟ .. بشكل دائم أم أحيانا . . .؟
ج د : أنا بداخلي ربما هنالك طفل لا زال يؤمن بالله ، لكن هذه ليست حال الفيلسوف البالغ.
ل : ألم يحدث لك أن صليت ؟ ..
بلى ، إنني أصلي طيلة الوقت ، لكن بطريقتي الخاصة ، وفي كل الأحوال غالبا ما أصلي ، لكنني، وبطبيعة الحال ، لن أصلي في الكنائس و لا في معابد اليهود .
ل : هل يتعلق الأمر بصلوات أم بتراتيل ؟ ..
ج د : لنقل إن الأمر يتعلق بتراتيل لا تماثل الطقوس والشعائر القائمة.
ل : طقوس تتوجه نحو كائن أعلى وأكبر من كل الموجودات ؟ ..
ج د : لا ، هي طقوس تروم كائنا تتوجه نحوه ، إن المسألة ليست مسألة حشمة أو حياء ، غير أنه يصعب علي أن أقول أكثر مما قلت.
ل : هل تشعر بأنك يهودي ؟ ..
ج د : هنا أيضا يصعب علي أن أجيب عن سؤال كهذا ببضع كلمات ، لقد ولدت يهوديا في كنف أسرة تحترم الشعائر والطقوس ، بما فيها طقس الختان، لكن بدون ثقافة يهودية عميقة ، وبالفعل ، فأنا أشعر بأنني يهودي ولست يهوديا على الإطلاق ، حتى إذا كان بالإمكان اعتباري يهوديا قحا بفعل محبتي للأسفار التي ليست لها أية علاقة بيهوديتي ؛ فأنا أكن الحب لجذوري : الجزائر أو اللغة الفرنسية ، وأنا مزدوج اللغة وجد فرانكفوني.
ل : ما هي الأشياء التي تحترمها اليوم ؟ ..
ج د : أحب أن أحترم ؛ فكل الأشخاص الذين أتحدث عنهم في كتاباتي ، حتى عندما يتعلق الأمر بنصوص متقطعة ، هم أشخاص يجب أن أعترف بأنني أحترمهم.
ل : بعض الأسماء . . .
ج د : هيلين سيسكو مثلا ، فهي كاتبة كبيرة ، غير أنني وددت أن أحترم أيضا بعض الشخصيات السياسية ، لكنني وجدت ذلك صعبا علي .
ل : هناك بطبيعة الحال بعض الاستثناءات . . .
ج د : نعم بطبيعة الحال ، مانديلا ، دوغول خصوصا ، حتى عندما كنت مناهضا للدوغولية في الستينيات ، فقد كنت مأخوذا بشخصية دوغول الذي عرف كيف يزاوج بين كل الأشياء ، المنظور والحساب ، المثالية والتجريبية ، لقد استطاع بفعل حذقه ، ككل السياسيين الماهرين ، أن يربطها كلها بأفكاره العظيمة واكتشافاته اللفظية وإنجازاته المسرحية في ندواته الصحفية.
ل : وميتيران ؟ ..
لقد التقيته عدة مرات وقد أثار إعجابي ، حتى ولو أن لديه وجهات نظر ضيقة نسبيا بخصوص الأدب أو الفلسفة ، فقد كان رجلا مغرما بالكتب ، وقد كنت أود أن أحترمه.
ل : ألا زلت تضع مسافة بينك وبين السياسة ؟ ..
ج د : لم يكن بمستطاعي أبدا أن أمارس هذه المهنة ؛ ففي كل مرة اقتربت فيها من الوزراء ، فابيوس ، شوفينمان أو لانج في الثمانينيات مثلا ، استطعت أن ألاحظ أن لا أحد من الناس يعاني من قلة الحرية مثلما يعاني هؤلاء ؛ إنهم "عبيد" تطوقهم آلة ضخمة ، ويرتعدون من الخوف أمام أسيادهم غير المرئيين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق